أجازيهم على كيدهم بالإمهال، ثم النكال؛ حيث أخذهم أخذ عزيز مقتدر، كقوله تعالى في سورة (القلم): {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} قال أبو السعود: أي: أقابلهم بكيد متين، لا يمكن ردّه حيث أستدرجهم من حيث لا يعلمون. هذا؛ والكيد: الحيلة، والمكر، والخبث، والخداع، وهو بهذه المعاني مستحيل في حقه تعالى، وإنما هو هنا بمعنى: الجزاء، والعقاب. وإنما ذكره بلفظ الكيد من باب المقابلة. وهذا ما يسمى عند البلغاء بالمشاكلة؛ أي: ذكر الله سبحانه جزاءهم وعقابهم من جنس صنيعهم. ومنه قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [٦٧]: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ،} وقوله تعالى في سورة (الشورى) رقم [٤٠]: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} ومثل هذا كثير في الآيات القرآنية، والمراد: مقابلة القبيح بمثله، وإذا قال: أخزاك الله؛ فقل له: أخزاك الله، وإذا شتمك فاشتمه بمثلها، ولا تعتد. وخذ قول ابن الرقعمق في المشاكلة: [الكامل]
أصحابنا قصدوا الصبوح بسحرة... وأتى رسولهم إليّ خصيصا
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه... قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا
وقال عمرو بن كلثوم في معلقته رقم [١١٤]: [الوافر]
ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى جزاء الجهل: جهلا لازدواج الكلام، وحسن تجانس اللفظ، فالجملة الثانية على مثل لفظ الأولى، وهي تخالفها في المعنى؛ لأن ذلك أخف على اللسان. ومن ذلك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم:
«فإنّ الله لا يملّ؛ حتّى تملّوا». فمعناه: أن الله تعالى لا يقطع عنكم فضله؛ حتى تملوا من مسألته، وتزهدوا فيها؛ لأن الله لا يمل في الحقيقة، وإنما نسب الملل إليه لازدواج اللفظين.
{فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ} أي: لا تستعجل عليهم، ولا تدع بهلاكهم. {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً:} أمهلهم قليلا، فسوف ترى ما أصنع بهم! وهذا منتهى الوعيد، والتهديد، ويقال: مهلا يا فلان! أي: رفقا، وسكونا. قال امرؤ القيس في معلقته رقم [٢٦] وهو الشاهد رقم [٤] من كتابنا: «فتح القريب المجيب»: [الطويل]
أفاطم مهلا بعض هذا التّدلّل... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
و (الرويد) في كلام العرب تصغير: رود، وكذا قال أبو عبيد، وأنشد قول الجموح الظفري: [البسيط]
تكاد لا تنل البطحاء وطأتها... كأنها ثمل يمشي على رود
و (رويد) مصغر تصغير الترخيم من إرواد، وهو مصدر: أرود، يرود.
وله أربعة أوجه: اسم للفعل، وصفة، وحال، ومصدر، فالاسم نحو قولك: رويد عمرا.
أي: أرود عمرا بمعنى: أمهله، فهو اسم فعل أمر مبني على السكون، وفاعله مستتر فيه.