للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال ذو الرّمّة-وهو الشاهد رقم [١١٦] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

حراجيج ما تنفكّ إلا مناخة... على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا

{حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي: حتى أتتهم، لفظه مضارع، ومعناه الماضي. والبينة: الحجة الواضحة، والمراد: الرسول صلّى الله عليه وسلّم أتاهم بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم، وشركهم، وما كانوا عليه من الجاهلية، ودعاهم إلى الإيمان، فآمنوا، فأنقذهم الله من الجهالة، والضلالة، ولم يكونوا منفصلين عن كفرهم قبل بعثه إليهم. والآية فيمن آمن من الفريقين.

قال الواحدي في بسيطه: وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما، وتفسيرا، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء. قال الإمام فخر الدين في تفسيره: إنه لم يلخص كيفية الإشكال فيها.

وأنا أقول: وجه الإشكال: أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة؛ التي هي الرسول، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عماذا؟ لكنه معلوم؛ إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه، فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول. ثم إن كلمة {حَتّى} لانتهاء الغاية، فهذه الآية تقتضي: أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

ثم قال بعد ذلك: {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وهذا يقتضي: أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى، والثانية تناقض في الظاهر، وهذا منتهى الإشكال في ظني. قال: والجواب عنه من وجوه:

أولها، وأحسنها الذي لخصه صاحب الكشاف، وهو: أن الكفار من الفريقين: أهل الكتاب، وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم: لا ننفك عما نحن عليه من ديننا، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود؛ الذي هو مكتوب في التوراة، والإنجيل، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم، فحكى الله عنهم ما كانوا يقولونه، ثم قال: {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} أي: أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق، ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

ونظيره في الكلام ما يقول الفاسق الفقير لمن يعظه: لست بمنفك مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى! فيرزقه الله الغنى، فيزداد فسقا، فيقول واعظه: لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار. فيذكره ما كان يقول توبيخا، وإلزاما.

قال الإمام فخر الدين: وحاصل الجواب يرجع إلى حرف واحد، وهو أن قوله تعالى: «لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة» مذكور حكاية عنهم. {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} إخبار عن الواقع، والمعنى: الذي وقع كان بخلاف ما ادّعوا.

<<  <  ج: ص:  >  >>