فيه. وأما الصّدق في الفعل هو عدم الانصراف عنه قبل تمامه. والصّدق في النيّة: العزم على الفعل؛ حتى يبلغه. {وَالْمُنْفِقِينَ:} يعني أموالهم في طاعة الله تعالى. ويدخل فيه: نفقة الرجل على نفسه، وعلى أهله، وأقاربه، وصلة رحمه، والزّكاة، والنفقة في القربات. وانظر ما ذكرته في سورة البقرة؛ تجد ما يسرّك.
{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ:} ومثله قوله تعالى في سورة (الذاريات): {وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
هذا؛ والأسحار جمع: سحر: آخر الليل، وهو بفتحتين، وهو بكسر السين، وسكون الحاء:
خزعبلات، وضلالات يقوم بها أفّاكون، ودجّالون. وهو بفتح السين، وسكون الحاء: منتهى قصبة الحلقوم، ومنه قول أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورأسه بين سحري، ونحري. انتهى جمل نقلا من السّمين.
وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: في هذه الآية الكريمة حصر لمقامات السّالك على أحسن ترتيب، فإنّ معاملته مع الله تعالى: إمّا توسل، وإمّا طلب، والتوسّل إمّا بالنفس، وهو منعها من الرّذائل، وحبسها على الفضائل، والصبر يشملها. وإمّا بالبدن، وهو إما قولي، وهو الصّدق، وإما فعلي، وهو القنوت؛ الذي هو ملازمة الطّاعة. وإمّا بالمال، وهو الإنفاق في سبيل الخير، وأمّا الطلب؛ فبالاستغفار؛ لأنّ المغفرة أعظم المطالب، بل الجامع لها. وتوسيط الواو بينها للدلالة على استقلال كلّ واحدة منها، وكمالهم فيها، أو لتغاير الموصوفين بها.
وتخصيص الأسحار بالذّكر؛ لأنّ الدّعاء فيها أقرب إلى الإجابة؛ لأنّ العبادة حينئذ أشقّ، والنّفس أصفى، والرّوع أجمع للمجتهدين. قيل: إنّهم كانوا يصلّون إلى السّحر، ثم يستغفرون بالأسحار، ويدعون انتهى بحروفه.
نعم؛ قال نافع مولى ابن عمر-رضي الله عنهما-: كان ابن عمر يحيي اللّيل، ثمّ يقول: يا نافع! أسحرنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصّلاة، فإذا قلت: نعم؛ قد يستغفر، ويدعو حتّى يصلّي الصّبح. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى سماء الدّنيا حين يبقى الثّلث الأخير، فيقول: من يدعوني، فأستجيب له؟! من يسألني فأعطيه؟! من يستغفرني فأغفر له؟! حتى يطلع الفجر» متّفق عليه. فهذا الحديث من أحاديث الصّفات، وللعلماء فيه، وفي أمثاله مذهبان معروفان: مذهب السّلف: الإيمان به، وإجراؤه على ظاهره، ونفي الكيفية عنه. والمذهب الثاني هو مذهب من يتأوّل أحاديث الصّفات، انظر الآية رقم [٧]. وبالجملة فقد وصف الله تعالى هؤلاء بما وصف، ثمّ بيّن: أنّهم مع ذلك لشدّة خوفهم، ووجلهم: أنهم يستغفرون بالأسحار، وروي: أنّ لقمان-عليه السّلام-قال لابنه: يا بني! لا تكن أعجز من الدّيك، فإنه يصوّت بالأسحار؛ وأنت نائم على فراشك. وقد قال الزمخشري: وخصّ الأسحار؛ لأنّهم كانوا يقدّمون قيام الليل، فيحسن طلب الحاجة بعده، كما قال تعالى في سورة (فاطر): {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ}.