للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى:} يعني في خدمته الكنيسة، والعبّاد الذين فيها، والأصل: وليس الأنثى كالذكر، فحصل في الكلام قلب، والمراد منه تفضيل الذكر على الأنثى؛ لأنّ الذكر يصلح للخدمة، ولا تصلح الأنثى لضعفها، وما يحصل لها من الحيض، ولأنّها عورة، ولا يجوز لها الحضور مع الرّجال، وكانت مريم من أجمل النّساء، وأفضلهنّ في وقتها، كما ستعرفه فيما بعد.

{وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ} يعني: العابدة، والمطيعة بلغتهم، فأرادت بذلك التقرّب، والطلب إليه أن يعصمها؛ حتّى يكون فعلها مطابقا لاسمها، وأن يصدق ظنّها بها، ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة لها، ولولدها من الشّيطان الرّجيم، ومعنى {أُعِيذُها} أجيرها، وأحصّنها، وأحفظها بكفالتك لها. {مِنَ الشَّيْطانِ:} انظر الآية رقم [٢٦٨] من سورة (البقرة) لشرحه، ومعناه.

هذا؛ و {الرَّجِيمِ} فعيل بمعنى مفعول، أي: إنه مرجوم باللّعن، والطّرد عن الخير، وعن رحمة الله تعالى. قيل: هو فعيل بمعنى فاعل، أي: إنّه يرجم غيره بالإغواء، والوسوسة.

وأصل الرّجم: الرمي بالحجارة. والرّجم: القتل، واللّعن، والطّرد، والشّتم. وقد قيل: هذا كله في قوله تعالى حكاية عن قول قوم نوح له: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} رقم [١١٦] من سورة (الشّعراء). والرّجم: القول بالظن، كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ} رقم [٢٢] من سورة (الكهف)، وقال زهير في معلّقته رقم [٢٩]: [الطويل]

وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم... وما هو عنها بالحديث المرجّم

بعد هذا: ففي صحيح مسلم-رحمه الله تعالى-عن أبي هريرة-رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود يولد إلاّ نخسه الشّيطان، فيستهلّ صارخا من نخسة الشّيطان، إلاّ ابن مريم، وأمّه». ثمّ قال أبو هريرة-رضي الله عنه-: اقرءوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُها..}. إلخ.

قال العلماء: أفاد هذا الحديث: أنّ الله تعالى استجاب دعاء أمّ مريم، فإنّ الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتّى الأنبياء، والأولياء إلا مريم، وابنها، ولا يلزم من نخس الشّيطان إضلال المنخوس، وإغواؤه، فكم تعرّض الشيطان للأنبياء، والأولياء بأنواع الإفساد، والإغواء، ومع ذلك عصمهم الله ممّا يرومه الشّيطان منهم. كما قال تعالى في سورة (الإسراء): {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} مع أنّ كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشّياطين، كما بينته فيما سبق. فمريم، وابنها وإن عصما من نخسه؛ فلم يعصما من ملازمته لهما، وقال ابن الرّومي في صراخ المولود: [الطويل]

لما تؤذن الدّنيا به من صروفها... يكون بكاء الطّفل ساعة يولد

وإلاّ فما يبكيه منها وإنّه... لأفسح ممّا كان فيه وأرغد

إذا أبصر الدّنيا استهل كأنّه... بما سوف يلقى من أذاها يهدّد

<<  <  ج: ص:  >  >>