كهل. فإذا أنزله الله من السماء؛ أنزله على صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة-وهو الكهل-فيقول لهم: {إِنِّي عَبْدُ اللهِ} كما قال في المهد. فهاتان آيتان، وحجّتان. انتهى. قرطبي.
{وَمِنَ الصّالِحِينَ} أي: من العباد الصّالحين، مثل إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وهارون، وغيرهم من الأنبياء، وفي وصف عيسى-عليه السّلام-بهذه الصفات المتغايرة إشارة إلى أنّه بمعزل عن الألوهيّة. ففيه رد على النّصارى، وقوله: ({مِنَ الصّالِحِينَ}) أي: الكاملين في الصلاح، فإنه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحا؛ لأنه لا يكون لذلك إلا إذا كان في جميع الأفعال، والمتروك مواظبا على المنهج الأصلح، وذلك من تناول جميع المقامات في الدين، والدنيا، في أفعال القلوب، والجوارح، ولهذا قال سليمان-عليه الصلاة والسّلام-بعد النبوة:
B» وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ». وقال يوسف الصديق بعد النبوة أيضا: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ}.
بعد هذا أقول: مشايخ هذا الزمن يحبّون أن تقبّل أيديهم، وأرجلهم، ويقولون: يستحب تقبيل يد الرّجل الصالح! فهلا يأتون بالرجل الصالح بعد ما قدمته في وصف الصالحين؟! وخذ ما يلي:
قال أبو هريرة-رضي الله عنه-: دخلت السّوق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاشترى سراويل، وقال للوزان:
«زن، وأرجح». فوثب الوزان إلى يد الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليقبلها، فجذب يده، وقال: «هذا تفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك، وإنّما أنا رجل منكم». ثمّ أخذ السراويل، فذهبت لأحملها، فقال:
«صاحب الشّيء أحقّ بشيئه أن يحمله». فالرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يرض أن تقبل يده، وجذب يده من يد الوزّان. وقال ما قال، وهم يمدّون أيديهم على طولها؛ ليتبارك بها من يقبلها من الناس.
بعد هذا؛ فقد قال صاحب السيرة الحلبية-رحمه الله تعالى-: وقد تكلّم جماعة في المهد، نظمهم الجلال السّيوطي-رحمه الله تعالى-في قوله: [الطويل]
تكلّم في المهد النّبيّ محمّد... ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومبري جريج ثمّ شاهد يوسف... وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مرّ بالأمة الّتي... يقال لها تزني ولا تتكلّم
وما شطة في عهد فرعون طفلها... وفي زمن الهادي المبارك يختم
وقال بعضهم: لكنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم حصر من تكلّم في المهد في ثلاثة، ولم يذكر نفسه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «لم يتكلّم في المهد إلاّ ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وابن المرأة الّتي مرّ عليها بامرأة، يقال لها: زنت».
وقد يقال: هذا الحصر إضافي، أي: ثلاثة من بني إسرائيل، أو إنّ ذلك كان قبل أن يعلم بما زاد، ثمّ بعد هذا أعلمه الله تعالى بما شاء من ذلك، فأخبره به، والله أعلم.