من أوّل النهار، ثم رفعه إلى السّماء، وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا: النّوم، كقوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [٦٠]: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ} وقوله تعالى في سورة (الزمر) رقم [٤٢]: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها}. وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقوم إذا قام من النوم:«الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا». وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-معنى متوفيك: مميتك. وهذا أضعف الأقوال، ولعل النسبة إليه ليست صحيحة. والحقّ: أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة، ولا نوم، كما قال الحسن، وابن زيد، وهو اختيار الطّبري، وهو الصّحيح عن ابن عباس، فترجع الوفاة إلى معنى القبض، وهو فحوى ما حكى الله في قوله في آخر سورة (المائدة): {فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}.
وهناك قول بأن المعنى: موفيك أجرك غير منقوص.
{وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: من سوء أعمالهم. وخبث صحبتهم. بمعنى: مخرجك من بينهم، ومنجّيك من كيدهم. {وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} أي:
يغلبونهم بالحجّة، أو السيف في غالب الأمر، والّذين اتبعوا عيسى هم النصارى؛ الذين لم يغيّروا، ولم يبدّلوا، ويعتقدون: أنّه رسول الله، لا ابنه، ولكنّهم صاروا بعد ذلك شيعا، وفرقا ثلاثة، ثم صاروا اثنتين وسبعين فرقة. انظر ما ذكرته في الآية رقم [٣٠] من سورة (التوبة) فإنّه جيد. والحمد لله!.
هذا؛ وإن الذين اتبعوا عيسى بالتوحيد، وعدم الشرك هم المسلمون، فهم أحقّ بعيسى-عليه السّلام-في الدّنيا، والآخرة، وإنّه إذا نزل في آخر الزّمان يكون واحدا من أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم كما أنّ المسلمين أحقّ بموسى-عليه السّلام-بدليل قول نبينا صلّى الله عليه وسلّم لليهود حينما هاجر من مكّة المكرمة إلى المدينة، ورآهم يصومون يوم عاشوراء، فسألهم عن سبب صومه، فقالوا: هذا يوم صالح نجّى الله فيه بني إسرائيل، فصامه موسى شكرا لله، فنحن نصومه، فقال لهم صلّى الله عليه وسلّم:«أنا أحق منكم بموسى». فصامه، وأمر بصيامه، ولذا عزّ المسلمون لتمسّكهم بالتوحيد الذي هو دين محمّد، ودين جميع الأنبياء، والمرسلين، وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها، وتحقّق لهم وعد الرسول صلّى الله عليه وسلّم في غزوة الخندق، وهو تحقيق وعد الله لهم في الآية رقم [٥٥] من سورة (النور): {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ..}. إلخ، فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بعيسى حقّا سلبوا النّصارى بلاد مصر، والشام... إلخ.
قال البيضاوي: -رحمه الله تعالى-: وإلى الآن لم يسمع غلبة اليهود على أتباع عيسى، ولم يتّفق لهم ملك، ودولة. انتهى. أقول: ولكن في هذه الآية قد قام لهم ملك، ودولة بمساعدة النّصارى أنفسهم، وبسبب تخاذل المسلمين، وتفرّقهم، وهجرهم تعاليم دينهم، وسنّة نبيهم، وما قام لهم في هذه الأيام إنما هو دليل قاطع على رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم حيث أخبر بأنه سيقوم لهم ملك