للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجهه، وأقبل يريد قتله، فذبّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مصعب بن عمير-رضي الله عنه-، وهو صاحب الراية يوم بدر، ويوم أحد؛ حتّى قتله ابن قمئة، وهو يرى: أنّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: قد قتلت محمدا، وصرخ صارخ: ألا إنّ محمدا قد قتل! وقيل: كان الصارخ الشّيطان، ففشا في الناس خبر قتله صلّى الله عليه وسلّم فانكفا، فجعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم يدعو: إليّ عباد الله! حتّى انحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم على هربهم، فقالوا: يا رسول الله! فديناك بآبائنا، وأمهاتنا! أتانا خبر قتلك، فرعبت قلوبنا، فولّينا مدبرين! فنزلت.

وروي: أنه لما صرخ الصّارخ؛ قال بعض المسلمين: ليت عبد الله بن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان! وقال ناس من المنافقين: لو كان نبيّا؛ لما قتل! ارجعوا إلى إخوانكم، وإلى دينكم.

فقال أنس بن النّضر عمّ أنس بن مالك-رضي الله عنه-: يا قوم! إن كان محمد قتل؛ فإنّ ربّ محمد حيّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟! فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء! وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء! ثم شدّ بسيفه، فقاتل حتّى قتل-رضي الله عنه-، وأرضاه!

ومعنى قوله تعالى: {وَما مُحَمَّدٌ..}. إلخ؛ أي: محمد صلّى الله عليه وسلّم من جملة الرّسل؛ الذين مضوا قبله، فكما ثبت أتباعهم على دينهم، فأثبتوا أنتم على دينكم بعد موته؛ لأنّ المقصود من بعثة الرسل تبليغ الرّسالة، وإلزام الحجّة، لا وجوده بين أظهر قومه. {أَفَإِنْ ماتَ} محمد صلّى الله عليه وسلّم: {أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ} أي: رجعتم إلى دينكم الأول؟! ففيه استعارة تصريحية بالفعل، وذكرت في قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [١٤٣]: {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ} أنها استعارة تمثيلية؛ حيث مثّل لمن يرتدّ عن دينه بمن ينقلب على عقبيه. ومثله قوله تعالى في سورة (الأنفال): {فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ}.

هذا؛ والأعقاب: جمع عقب، وهو مؤخر الرّجل، وتثنيته: عقبان. قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حقّ الذين لا يغسلون الأعقاب في الوضوء جيدا: «ويل للأعقاب من النّار!». {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ:} يرجع عن الإسلام. {فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً} وإنما يضرّ نفسه بتعريضها للسخط، والعذاب، والانتقام. {وَسَيَجْزِي اللهُ الشّاكِرِينَ..}. أي: يثبّت الله المطيعين؛ الذين ثبتوا على الإيمان، ولم يرتدّ عن الإسلام. وهذه الجملة بعد سابقتها فيها اتصال الوعد بالوعيد.

ورحم الله القرطبي؛ إذ يقول: هذه الآية أدلّ دليل على شجاعة الصدّيق، وجراءته، فإنّ الشّجاعة، والجرأة حدّهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كما هو معروف، فظهرت عنده شجاعته، وعلمه، فإن المسلمين اضطربوا عند موت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهاجوا، وماجوا، منهم عمر-رضي الله عنه-حيث طار صوابه، وأخذ يقول: من قال:

إنّ محمدا قد مات؛ قطعت رأسه بهذا السّيف! وعثمان-رضي الله عنه-قد أقعد، وعليّ

<<  <  ج: ص:  >  >>