وقال محمد بن كعب القرظيّ، ومحمد بن إسحاق: هذا في شأن الوحي، يقول: وما كان لنبي أن يكتم شيئا من الوحي، رغبة، أو رهبة، أو مداهنة، والغلول: هو الخيانة، وأصله: أخذ الشيء في خفية يقال: غل فلان، يغل بفتح الياء، وضم الغين؛ أي: وما كان لنبي أن يخون؛ لأنّ النبوة والخيانة لا يجتمعان؛ لأن منصب النبوة أعظم المناصب، وأشرفها، وأعلاها، فلا تليق به الخيانة؛ لأنّها في نهاية الدناءة، والخسّة، والجمع بين الضدّين محال. فثبت بذلك: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يخن أمّته في شيء، لا من الغنائم، ولا من الوحي.
وقيل: المراد به: الأمة؛ لأنه قد ثبتت براءة ساحة النبيّ من الغلول، والخيانة، فدلّ ذلك على أنّ المراد بالغلول غيره. انتهى خازن بتصرف. وهذا الذي أعتمده إن شاء الله؛ لأنه قد خوطب النبي صلّى الله عليه وسلّم بأشياء كثيرة، والمراد أمّته، مثل قوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ..}. إلخ، وقوله تعالى:{وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ..}. إلخ، وغير ذلك.
{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي: يأتي به حاملا له على ظهره ورقبته، معذبا بحمله، وثقله، ومرعوبا بصوته، وموبّخا بإظهار خيانته على رءوس الناس، هذه الفضيحة التي يوقعها الله تعالى بالغالّ نظير الفضيحة التي يوقعها الله بالغادر في أن ينصب له لواء عند استه بقدر غدرته.
{ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ:} تعطى جزاء ما كسبت وافيا غير ناقص، وكان المناسب لما قبله أن يقال: ثم يوفى ما كسب، ولكنّه عمّم الحكم؛ ليدخل تحته كلّ كاسب من الغالّ وغيره، فاتّصل به من حيث المعنى، وهو أثبت، وأبلغ. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فلا ينقص ثواب محسنهم، ومطيعهم، ولا يزاد في عقاب سيّئهم. وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم، فذكر الغلول، فعظّمه، وعظّم أمره، ثم قال:«لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني! فأقول، لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس، له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة، لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس، لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك».
أخرجه الإمام مسلم، وغيره. حمحمة الفرس: صوته دون الصهيل. الرّقاع: الثياب، جمع رقعة وقيل: هي التي فيها الحقوق، وخفوقها: حركتها، والصّامت: الذهب، والفضّة.