للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرّضا. وخالف الجمهور في ذلك: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد-رضي الله عنهم-فرأوا: أنّ الأقوال كما تدلّ على التراضي، فكذلك الأفعال تدلّ في بعض المحالّ قطعا، فصحّحوا ببيع المعاطاة مطلقا. هذا؛ وقد قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}.

والرسول صلّى الله عليه وسلّم رغب التّجار في الصّدق، والأمانة، وحذّرهم من الكذب، والخيانة، فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «التّاجر الصّدوق الأمين مع النّبيّين، والصّدّيقين والشّهداء يوم القيامة». رواه الترمذيّ.

وعن عبد الرحمن بن شبل-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ التّجّار هم الفجّار». قالوا: يا رسول الله! أليس قد أحلّ الله البيع؟ قال: «بلى: ولكنّهم يحلفون، فيأثمون، ويحدّثون، فيكذبون». رواه الإمام أحمد، والحاكم، وإنّما قال ذلك؛ لأنّهم أهل دين واحد، فهم كنفس واحدة. وصحّ عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه قال في حجّة الوداع: «ألا لا ترجعوا بعدي ضلاّلا يضرب بعضكم رقاب بعض». وقيل: المعنى لا تقتلوا أنفسكم بارتكاب المعاصي، ويحتمل أن يكون المعنى: لا تقتلوا أنفسكم في حال ضجر، أو غضب. وقد احتجّ عمرو بن العاص بهذه الآية حين بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة ذات السّلاسل، فقال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت، ثمّ صلّيت بأصحابي صلاة الصّبح، فلمّا قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت ذلك له، فقال: «يا عمرو صلّيت بأصحابك؛ وأنت جنب؟» قلت: يا رسول الله إنّي احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك! فذكرت قول الله عزّ وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً} فتيمّمت، ثمّ صليت.

فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يقل شيئا. رواه أحمد، وأبو داود، وانظر قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} في سورة (البقرة) رقم [١٩٤] فله صلة بهذه الآية.

هذا وأورد ابن مردويه عند هذه الآية قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «من تردّى من جبل، فقتل نفسه، فهو في نار جهنّم يتردّى فيها خالدا مخلّدا فيها أبدا، ومن تحسّى سمّا، فقتل نفسه، فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا». أخرجه الشّيخان، وغيرهما عن أبي هريرة، رضي الله عنه.

{إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً} يعني: إنّ الله تعالى من رحمته بكم نهاكم عن كلّ شيء تستوجبون به مشقة، أو محنة. وقيل: إنّه تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم؛ ليكون ذلك توبة لهم، وكان بكم يا أمّة محمد رحيما؛ حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الشاقّة الصّعبة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: ({يا}) أداة نداء تنوب مناب: أدعو، أو: أنادي. ({أَيُّهَا}): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب‍ (يا). (ها): حرف تنبيه لا محلّ له، وأقحم للتّوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محلّ جرّ بالإضافة؛ لأنّه حينئذ يجب نصب المنادى. وانظر

<<  <  ج: ص:  >  >>