للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا؛ وقال تعالى في هذه الآية: {بِما نَزَّلْنا،} وقال في كثير من الآيات: {أَنْزَلْنا} والفرق بينهما: أنّ الأوّل يفيد: أنّ القرآن نزل مفرّقا في ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع، ومقتضيات الأحوال على ما نرى عليه أهل الشّعر، والخطابة، وهذا ممّا يريب الكافرين، والملحدين، كما حكى الله سبحانه عنهم: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً} فبيّن سبحانه الحكمة من ذلك بقوله: {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً} الآية رقم [٣٢] من سورة (الفرقان)، وأمّا لفظ: {أَنْزَلْنا} فإنّه يفيد: أنّه نزل جملة واحدة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

{مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً..}. إلخ: أي: من قبل أن نمحو عنهم تخطيط صورها، ونجعلها على هيئة أدبارها. يعني: الأقفاء. وقيل: نديرها، فنجعل الوجوه إلى خلف، والأقفاء إلى قدّام، وإنّما جعل الله هذا عقوبة لهم، لما فيه من تشويه الخلقة، والمثلة، والفضيحة، وعند هذا تكثر الحسرات، ويحصل لهم الغمّ. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-: {نَطْمِسَ وُجُوهاً:}

نجعلها كخفّ البعير، أو كحافر الدّابة. وقال قتادة، والضّحاك: نعميها، كقوله تعالى: {فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ} رقم [٣٧] من سورة (القمر). وقيل: المعنى: نجعل منابت الشعر كوجوه القردة. هذا؛ ولم يفعل الله بهم ما هدّدهم به؛ لأنّ هذا الوعيد، والتّهديد كان مشروطا بعدم الإيمان، وقد آمن منهم ناس، فرفع عن الباقين.

روي: أنّ عبد الله بن سلام-رضي الله عنه-لمّا سمع هذه الآية، وكان قافلا من الشّام جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يأتي أهله، فأسلم، وقال: يا رسول الله! ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يحوّل وجهي إلى قفاي! وكذلك روي عن كعب الأحبار: أنّه لمّا سمع هذه الآية في خلافة عمر -رضي الله عنه-أسلم، وقال: يا ربّ! أسلمت مخافة أن يصيبني وعيد هذه الآية، فكان هذا الوعيد مشروطا بأن لا يؤمن أحد منهم، وهذا الشّرط لم يوجد؛ لأنّه آمن منهم جمع كثير في زمن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبعده. هذا؛ والوجه: ما تتمّ به المواجهة، وقد يعبّر به عن الذّات، ومنه قوله تعالى في سورة (الرّحمن): {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} وفي آخر سورة (القصص): {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ}.

{أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنّا أَصْحابَ السَّبْتِ:} السبت: أحد أيام الأسبوع المعروفة، قال ابن عطية-رحمه الله تعالى-: والسّبت إما مأخوذ من السّبوت، الذي هو الرّاحة والدّعة، وإمّا من السبت، وهو:

القطع؛ لأنّ الأشياء سبتت، وتم خلقها في أيام الأسبوع السّتّة قبله. هذا؛ والسّبت بكسر السين:

الجلد المدبوغ بالقرظ، ولم ينجرد من شعره. وقال أبو زيد: السّبت: جلود البقر خاصّة مدبوغة.

قال عنترة في معلّقته-وهو الشّاهد رقم [٣٠٦] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الكامل]

بطل كأنّ نيابه في سرحة... يحذى نعال السّبت ليس بتوأم

<<  <  ج: ص:  >  >>