ويتحدّثون به قبل أن يحدّث به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيضعفون به قلوب المؤمنين المقيمين في المدينة، فأنزل الله الآية الكريمة، ومعنى:{أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ} جاءهم خبر بفتح، وغنيمة. {أَوِ الْخَوْفِ} يعني: القتل، والهزيمة. {أَذاعُوا بِهِ:} أفشوا ذلك الخبر، وأشاعوه بين النّاس، يقال: أذاع السّرّ، وأذاع به: إذا أشاعه، وأظهره، قال أبو الأسود الدّؤلي في وصف من هذه صفته:[الطويل]
أمنت على السّرّ امرأ غير حازم... ولكنّه في النّصح غير مريب
أذاع به في النّاس حتّى كأنّه... بعلياء نار أوقدت بثقوب
{وَلَوْ رَدُّوهُ} أي: الأمر الّذي تحدّثوا به، وأفشوه، وأذاعوه. {إِلَى الرَّسُولِ} صلّى الله عليه وسلّم حتى يتحدّث به هو، ويذيعه؛ لكان خيرا لهم في الدّنيا، والآخرة. {وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} أي:
ردّوه إلى ذوي العقول، والرأي، والبصيرة بالأمور منهم، وهم كبار الصّحابة، كالصّديق، والفاروق، وعثمان، وعليّ، رضوان الله عليهم. وقيل: هم أمراء البعوث، والسّرايا، وإنّما قال:{مِنْهُمْ} على حسب الظاهر، ولأنّ المنافقين كانوا يظهرون الإيمان، فلذا قال:{وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجون تدبيره بذكائهم، وفطنتهم، وتجاربهم، ومعرفتهم بأمور الحرب، وما ينبغي لها، ومكايدها، وهم العلماء الذين علموا ما ينبغي أن يكتم من الأمور، وما ينبغي أن يذاع منها، و (النّبط): الماء الذي يخرج من البئر أوّل ما تحفر، واستنباطه: استخراجه، فاستعير لما يخرجه الرّجل بفضل ذكائه، وصفاء قريحته، وفطنته من المعاني، والتدبّر فيما يعضل، ويهمّ، يقال: استنبط الفقيه المسألة: إذا استخرجها باجتهاده، وفهمه.
وفي الآية دليل على جواز القياس، وأنّ من العلم ما يدرك بالنّصّ، وهو: الكتاب، والسنّة، ومنه ما يدرك بالاستنباط، وهو القياس عليهما. ومعنى الآية: ولو أنّ هؤلاء المنافقين، والمذيعين ردّوا الأمر من الأمن، والخوف إلى الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وإلى أولي الأمر، وطلبوا معرفة الحال فيهم من جهتهم؛ لعلموا حقيقة ذلك منهم، وأنّهم أولى بالبحث عنه، فإنّهم أعلم بما ينبغي أن يذاع، أو يكتم. ثمّ في هذه الآية تأديب لمن يحدّث بكلّ ما سمع، وكفى به كذبا، وافتراء، وزورا أن يحدّث الإنسان بما سمع قبل تمحيصه، والتأكّد من صحّته. قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم:
«كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكلّ ما سمع». أخرجه مسلم في مقدّمة صحيحه عن أبي هريرة، -رضي الله عنه-.
وفي مختصر ابن كثير: ولنذكر هاهنا حديث عمر-رضي الله عنه-المتّفق على صحّته حين بلغه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طلّق نساءه، فجاء من منزله حتّى دخل المسجد، فوجد النّاس يقولون ذلك، فلم يصبر؛ حتى استأذن على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فاستفهمه: أطلقت نساءك؟! فقال:«لا!» فقلت: