للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

استدلّ العلماء بهذه الآية على قصر الصلاة في السّفر، على اختلافهم في ذلك. فمن قائل:

لا بدّ أن يكون السفر سفر طاعة؛ من جهاد، أو حجّ، أو عمرة، أو طلب علم، أو زيارة رحم، ونحو ذلك. وذهب الشافعي، ومالك، وأحمد، والجمهور إلى أنّه يجوز القصر في كل سفر مباح. وذهب أبو حنيفة، والثوري، وداود إلى أنّه يجوز القصر لمطلق السفر، سواء أكان مباحا، أو محظورا، حتى لو خرج لقطع الطريق، وإخافة السبيل، وخالفهم الجمهور.

وقال داود الظّاهري: لا يجوز القصر إلا في حال الخوف، واستدلّ على ذلك بقوله تعالى:

{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} لأنّ عدم الشّرط يقتضي عدم المشروط. وخالفه جمهور الأمّة، وقالوا: قد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزول الآية، فإنّ مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل كانوا لا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو في سريّة خاصّة، وسائر الأحيان كانت حربا للإسلام وأهله. والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب، أو على حادثة خاصّة؛ فلا مفهوم له، كقوله تعالى في سورة (النّور): {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً،} وكقوله تعالى في هذه السّورة: {وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ}.

وقال الإمام أحمد: عن يعلى بن أميّة-رضي الله عنه-، قال: سألت عمر-رضي الله عنه-، قلت له: قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر-رضي الله عنه-: عجبت ممّا عجبت منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال: «صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته». أخرجه مسلم.

وعن أبي حنظلة الحذّاء؛ قال: سألت ابن عمر-رضي الله عنهما-عن صلاة السّفر، فقال:

ركعتان. فقلت: أين قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا؟} فقال: سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

هذا؛ وأمّا المسافة التي يجوز فيها قصر الصّلاة؛ فمختلف فيها اختلافا كثيرا، والمفتى به في هذه الأيام أن تكون خمسة وثمانين كيلومترا إلى تسعين كيلومترا، كما اختلفوا في جواز الإتمام في حال السّفر، فذهب مالك، وأبو حنيفة-رحمهما الله-إلى أنّ القصر في السفر واجب، ويدلّ عليه ما روي عن عائشة-رضي الله عنها-: فرض الله الصّلاة حين فرضها ركعتين، ثمّ أتمّها في الحضر، وأقرّت صلاة السفر على الفريضة الأولى. وفي رواية أخرى:

قالت: فرض الله الصّلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر، والسفر، فأقرّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر. أخرجاه في الصحيحين. وذهب قوم إلى جواز الإتمام في السّفر، ولكن القصر أفضل، وهو مذهب الشّافعي، وأحمد، وهو رواية عن مالك أيضا، ويدلّ على ذلك ما روى البغوي بسند الشافعي عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: كلّ ذلك فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قصر، وأتم. وعنها: أنّها اعتمرت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكّة؛ حتّى إذا قدمت مكّة؛ قالت: يا رسول الله! بأبي أنت، وأمّي! قصرت، وأتممت، وصمت، وأفطرت. قال: «أحسنت

<<  <  ج: ص:  >  >>