للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ:} الشّفاعة: التوسل، وابتغاء الخير، والذي يكون منه التوسّل يسمّى:

الشفيع، والشّفاعة في الدّنيا تكون حسنة، وتكون سيّئة، فالأولى هي الّتي روعي فيها حقّ مسلم، ودفع بها عنه شرّ، أو جلب إليه الخير، وابتغي به وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حد من حدود الله، ولا في حقّ من حقوق العباد. والسّيئة ما كانت بخلاف ذلك. وقيل: الشفاعة الحسنة: هي الدعوة للمسلم؛ لأنّها بمعنى الشفاعة إلى الله تعالى، فعن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من دعا لأخيه بظهر الغيب؛ استجيب له، وقال له الملك: ولك مثل ذلك».

فذلك النصيب الذي ذكر بقوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها} رقم [٨٥] من سورة (النساء).

وروى مسلم عن أمّ الدرداء-رضي الله عنها-قالت: حدّثني سيّدي: أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب؛ قالت الملائكة: ولك بمثله».

ولا ريب: أنّ المراد بالشّفاعة في هذه الآية: الشفاعة يوم القيامة. والشّفاعة العظمى مختصّة بنبينا صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ يتلوها شفاعات أخرى، كما هو معلوم من الدّين، وأحكامه، وهو مذهب أهل الحقّ، والسّنّة، والجماعة.

وأنكر المعتزلة الشّفاعة، وخلّدوا المذنبين من المؤمنين الذين دخلوا النّار في العذاب، والأخبار متظاهرة بأنّ من كان من العصاة المذنبين الموحّدين من أمم النبيّين هم الذين تنالهم شفاعة الشّافعين من الملائكة، والنّبيين، والشّهداء، والصالحين. قال ابن المنير المعلّق على الكشاف: أمّا من جحد الشفاعة؛ فهو جدير بأن لا ينالها، وأما من آمن بها، وصدّقها-وهم أهل السّنّة والجماعة-فأولئك يرجون رحمة الله. ومعتقدهم: أنها تنال العصاة من المؤمنين، وإنّما ادخرت لهم في الآخرة. انتهى. أقول: والأحاديث في الشفاعة كثيرة مشهورة، وفي كتب الأحاديث مسطورة.

قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: فإن قالوا: قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب ردّ هذه الأخبار، مثل قوله تعالى في سورة (غافر): {ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ} قالوا: وأصحاب الكبائر ظالمون. وقال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} وفي هذه الآية: {وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ}.

قلنا: ليست هذه الآيات عامّة في كلّ ظالم، والعموم لا صيغة له، فلا تعمّ هذه الآيات كلّ من يعمل سوءا وكلّ نفس، وإنما المراد بها: الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة في ذلك.

وانظر قوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [٧٩]: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} تجد ما يسرّك، وقد أجمع المفسرون على أنّ المراد ب‍ ({نَفْسٌ}) في هذه الآية النّفس الكافرة، لا كلّ نفس. انتهى بتصرف.

{وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ:} العدل هو بفتح العين: هو الفداء، وهو بكسرها: المثل. يقال: عدل وعديل للذي يماثلك في الوزن، والقدر. ويقال: عدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدرا، وإن لم

<<  <  ج: ص:  >  >>