واختلف العلماء بالمقدار الواجب مسحه، فقال الإمام مالك، والإمام أحمد: الباء صلة، والواجب تعميم الرأس بالمسح. وقال الشافعي، وأبو حنيفة: الباء للتبعيض، والبعض ما يقع عليه الاسم عند الشافعي، ولو بمقدار الأصبع. وعند أبي حنيفة: لا يكون البعض أقل من ربع الرأس، رحمهم الله جميعا، فأخذ مالك، وأحمد بالاحتياط، فأوجبا الاستيعاب، وأخذ الشافعي باليقين، فأوجب مسح ما يقع عليه اسم المسح، وأخذ أبو حنيفة ببيان السنة، وهو ما روي عن المغيرة بن شعبة-رضي الله عنه-: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم توضأ فمسح بناصيته، وعلى العمامة، والخفين. متفق عليه. وقدّر الناصية بربع الرأس.
{وَأَرْجُلَكُمْ} يقرأ بفتح اللام عطفا على: {وُجُوهَكُمْ} وهذا لا ريب فيه، وإن عطفته على (رءوسكم) فيكون مثل قوله تعالى في سورة (الفرقان): {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً،} وقوله تعالى في سورة (الحج): {يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ،} وقوله تعالى في سورة (الحشر): {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} انظر شرح هذه الآيات في محالها تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. ويكون المعنى هنا: وامسحوا برءوسكم، واغسلوا أرجلكم. وقراءة الجرّ على الجوار، وله نظائر في كتاب الله تعالى، وفي الشّعر العربي، فمن ذلك قوله تعالى في كثير من الآيات:{عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وقوله: (وحور عين) بجر (حور)، وإنّ {أَلِيمٍ} صفة عذاب، وقد جر لمجاورة {يَوْمٍ،}(وحور) معطوف على {وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ} وهو مرفوع، وقد جرّ لقربه من:{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ} ومن ذلك قول امرئ القيس في معلّقته، وهو الشاهد رقم [٩٠٨] من كتابنا: «فتح القريب المجيب»: [الطويل]
كأنّ أبانا في عرانين وبله... كبير أناس في بجاد مزمّل
فجرّ «مزمل» مع كونه صفة لكبير لمجاورته ل «بجاد» وقال زهير: [الكامل]
لعب الزّمان بها وغيّرها... بعدي سوافي المور والقطر
قال أبو حاتم: كان الوجه «القطر» بالرفع، ولكنّه جرّه على جوار «المور» كما قالت العرب:
هذا حجر ضبّ خرب، فجر: خرب، وإنّما هو صفة ل:«حجر» المرفوع. والذي عليه المحققون: أنّ خفض الجوار يكون في النّعت قليلا، وفي التّوكيد نادرا كما في قول أبي الغريب -وهو في:«فتح القريب المجيب» رقم [١١٦٣] -: [البسيط]
يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم... أن ليس وصل إذا انحلّت عرا الذّنب
ولا يكون في النسق إلا لحكمة واضحة؛ لأنّ العاطف يمنع من التّجاور، ولذا بين الزمخشري الحكمة في الآية الكريمة التي نحن بصدد شرحها، فقال: لما كانت الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة بصبّ الماء عليها؛ كانت مظنّة الإسراف المذموم شرعا، فعطفت على