محمدا صلّى الله عليه وسلّم في الحكم بينهم، ولهذا قيل: لو تحاكم كتابيان إلى القاضي المسلم؛ لم يجب عليه الحكم بينهما. وهو قول الشّافعي. والأصح وجوبه إذا كان المترافعان، أو أحدهما ذميّا؛ لأنّا التزمنا الذبّ عنهم، ودفع الظلم عنهم، والآية الكريمة ليست في أهل الذمّة، وعند أبي حنيفة يجب مطلقا. وانظر الآية رقم [٤٨ - ٤٩].
{وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً:} فلن يقدروا على الإضرار بك؛ لأنّ الله حافظك، وعاصمك من كيدهم. وإن حكمت؛ فاحكم بينهم بالقسط: أي: بالعدل الّذي أمر الله به. إنّ الله يحب المقسطين: يحفظهم، ويرفع شأنهم، هذا؛ وأقسط رباعي معناه: العدل، واسم الفاعل منه:
مقسط بمعنى العادل، أو العدل، بخلاف قسط الثلاثي، فمعناه: الجور، والظلم، يقال: قسط الرجل: إذا جار، وأقسط: إذا عدل، قال تعالى في سورة (الجنّ) رقم [١٥]: {وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً}. وهذا هو المشهور خلافا للزجّاج في جعلهما سواء، وخذ ما يلي:
عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرّحمن-وكلتا يديه يمين-الّذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما ولوا». رواه مسلم، والنسائي.
وعنه أيضا: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ المقسطين في الدّنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرّحمن -عزّ وجلّ-بما أقسطوا في الدّنيا». أخرجه ابن أبي حاتم، والنسائي. وخذ قول الحارث بن حلّزة في معلقته: [الخفيف]
ملك مقسط وأكمل من يم... شي ومن دون ما لديه الثّناء
هذا؛ و (بين) ظرف مكان بمعنى وسط بسكون السّين، لا يقع إلا بين متعدد لفظا، وحكما، تقول: جلست بين القوم، كما تقول: جلست وسط القوم. هذا؛ والبين: الفراق، والبعاد، وهو أيضا الوصل، فهو من الأضداد، ك: «الجون» يطلق على الأسود، والأبيض. ومن استعماله بمعنى الوصل ما قرئ به في سورة (الأنعام) رقم [٩٤]: «(لقد تقطع بينكم)» حيث قرئ بضم النون، ومن استعماله بمعنى: الفراق، والبعاد قول كعب بن زهير-رضي الله عنه-من قصيدته الّتي مدح بها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو الشّاهد رقم [٨٠٩] من كتابنا: «فتح القريب المجيب»: [البسيط]
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا... إلاّ أغنّ غضيض الطّرف مكحول
الإعراب: {سَمّاعُونَ:} خبر لمبتدإ محذوف، أي: هم سمّاعون، والجملة الاسمية مستأنفة إعرابا مؤكّدة لما تقدّم معنى. {لِلْكَذِبِ:} متعلقان ب: {سَمّاعُونَ} وانظر الآية السابقة.
{أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ:} هو مثل سابقه إعرابا، ومحلاّ، وفيهما ضمير مستتر هو الفاعل. {فَإِنْ:}
الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {جاؤُكَ:} فعل ماض مبني على الضم في