النّضير إذا قتلوا من قريظة؛ أدّوا إليهم نصف الدّية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النّضير؛ أدّوا إليهم الدّية كاملة، فغيّروا حكم الله؛ الذي أنزله في التّوراة.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: أخبر الله بحكمه في التوراة: وهو: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ} قال: فما لهم يخالفون، فيقولون النفسين بالنفس، ويفقئون العينين بالعين؟! ومعنى الآية: أنّ قاتل النفس يقتل بها إذا تكافأ الدّمان، وسائر الأطراف، والأعضاء يجري فيها القصاص كذلك.
{وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ} يعني: فيما يمكن أن يقتصّ منه، وهذا تعميم بعد التّخصيص؛ لأنّ الله تعالى ذكر النّفس، والعين، والأنف، والأذن، فخصّ هذه الأربعة بالذّكر، ثمّ قال تعالى:
{وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ} على سبيل العموم، فيمكن أن يقتصّ منه، كاليد، والرجل، والذّكر، والأنثيين، وغيرها، وأمّا ما لا يمكن القصاص فيه، كرضّ في لحم، أو كسر في عظم، أو جراحة في بطن؛ يخاف منها التّلف؛ فلا قصاص في ذلك. وفيه الأرش، والحكومة (١). وانظر الآية رقم [١٧٨] من سورة (البقرة).
واعلم: أنّ هذه الآية دالة على أنّ هذا الحكم كان شرعا في التوراة، فمن قال: شرع من قبلنا يلزمنا إلا ما نسخ منه بالتفصيل؛ قال: هذه الآية حجّة في شرعنا، ومن أنكره؛ قال: إنّها لست بحجّة علينا. وأصل هذه المسألة: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمّته بعد البعثة متعبّدون بشرع من تقدّم من الأنبياء، عليهم السّلام، وفي ذلك خلاف مشهور، فبعض العلماء يقول: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان متعبّدا بما صحّ من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه لا من جهة كتبهم المبدّلة، واختار بعض العلماء المنع من ذلك. واحتجّ الأوّلون لصحّة مذهبهم بأنّ الإجماع منعقد على صحّة الاستدلال بالآية الكريمة مع أنّه من شريعة من تقدّم؛ لأنّه مذكور في التوراة، ومكتوب على بني إسرائيل، ولولا أنّا متعبّدون بشريعة من قبلنا؛ لما صحّ هذا الاستدلال.
{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} يعني: بالقصاص، فلم يقتص من الجاني. {فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ:} في هاء: {لَهُ} قولان: أحدهما: أنّ الهاء كناية عن المجروح، وولي المقتول، وذلك أنّ المجروح، أو وليّ المقتول إذا تصدّق بالقصاص؛ كان ذلك كفارة لذنوبه. وهذا قول ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والحسن البصري-رضي الله عنهم-ويدلّ عليه ما روي عن أبي الدّرداء-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من رجل يصاب بشيء من جسده، فيتصدّق به؛ إلاّ رفعه الله به درجة، وحطّ عنه به خطيئة». أخرجه الترمذيّ. وعن أنس-رضي الله عنه-قال: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو.
١) الأرش: هو دية الجراحات؛ أي: التعويض المالي. والحكومة: الحكم الذي يصدره القاضي المسلم في الجراحات.