للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنهم لبثوا أربعين سنة في تسعة فراسخ (١) من أرض فلسطين يسيرون من الصّباح إلى المساء، فإذا هم في المكان الذي ارتحلوا عنه، ويسيرون من المساء إلى الصباح، فإذا هم في المكان نفسه، وكان ذلك في التيه عقوبة لبني إسرائيل، ما خلا موسى، وهارون، ويوشع، وكالب، فإنّ الله سهّله عليهم، وأعانهم عليه، كما سهّل النار على إبراهيم، وجعلها بردا وسلاما، وكانوا أكثر من ستمائة ألف، وبقاء هذا الجمع العظيم في هذه المساحة من الأرض مدّة أربعين سنة، بحيث لم يخرج منه أحد إنّما هذا من باب خرق العادة، وهو في زمن الأنبياء غير مستبعد، ولمّا آذاهم حرّ الشمس؛ أرسل عليهم الغمام يظلّهم في النّهار، وأرسل عليهم عمودا من نور يطلع عليهم في اللّيل، فيضيء لهم طريقهم، ويسهّل عليهم تحرّكاتهم، وكان طعامهم المنّ والسّلوى. هذا؛ والآية مذكورة بحروفها في سورة الأعراف رقم [١٥٩]. (وكان ماؤهم من الحجر الذي يحملونه معهم، فيضربه موسى بعصاه، فينفجر منه اثنتا عشرة عينا)، كما ستعرفه في الآية رقم [٦٠] الآتية، وأيضا في سورة الأعراف رقم [١٦٠] وكانت ثيابهم لم تبل في هذه المدّة، ولا تتّسخ وكانت تطول معهم، كما تطول الصّبيان، قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: «خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق، ولا تدرن»، أي: لا يصيبها وساخة، ولا قذارة.

هذا واختلف في المنّ ما هو؟ فقال ابن عباس-رضي الله عنهما-: كان المنّ ينزل على الأشجار، فيغدون إليه، فيأكلون ما شاءوا. وقال قتادة: كان المنّ ينزل عليهم في محلهم سقوط الثلج، أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإن ادّخر منه شيئا؛ فسد عليه إلا يوم الجمعة، فإنّهم كانوا يدّخرون فيه ليوم السبت، فلا يفسد عليهم؛ لأن يوم السبت يوم عبادة، وما كان ينزل عليهم فيه شيء. وقال عبد الرحمن بن أسلم: إنّه العسل. وليس بشيء.

هذا؛ وقيل: المنّ مصدر، يعم جميع ما منّ الله به على عباده من غير تعب، ولا زرع، ومنه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث سعيد بن عمرو بن نفيل (أحد العشرة المبشرين بالجنة-رضي الله عنه-): «الكمأة من المنّ الّذي أنزل الله على بني إسرائيل، وماؤها شفاء للعين». رواه مسلم.

قال أبو عبيد رحمه الله تعالى: إنّما شبهها بالمنّ؛ لأنه لا مئونة فيها ببذر، ولا سقي، ولا علاج، فهي منه، أي من جنس منّ بني إسرائيل في أنّه كان دون تكلّف. قال بعض أهل العلم بالطّبّ: الكمأة شفاء للعين، إما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة، فتستعمل بنفسها مفردة، وإما لغير ذلك، فمركبة مع غيرها. وذهب أبو هريرة-رضي الله عنه-إلى استعمالها بحتا في جميع أمراض العين، وهذا كما استعمل أبو وجزة العسل في جميع الأمراض


١) الفرسخ: مسافة تبلغ ثلاثة أميال هاشمية، والميل الهاشمي (٥٧٦٠) مترا (المعجم المدرسي).

<<  <  ج: ص:  >  >>