للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{بِأَيْدِيهِمْ:} تأكيد، فإنه قد علم: أن الكتابة لا تكون إلا باليد، فهو مثل قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [٣٨]: {وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ} وقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} الآية رقم [١٦٧] من سورة (آل عمران).

{ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ} أي: يقولون لأتباعهم الأميين: هذا الذي تجدونه هو نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السّلام، مع أنّهم كتبوها بأيديهم، ونسبوها إلى الله كذبا، وزورا، فإذا نظر الأميّون إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإلى تلك الصفة المكتوبة في التوراة؛ وجدوه مخالفا لها، فيكذّبون، ويقولون: إنه ليس به. {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً:} لينالوا بما كتبوا عرض الدنيا الزائل وحطامها الفاني. هذا؛ ووصف الله تعالى ما يأخذونه بالقلّة إما لفنائه، وعدم ثباته، وإما لكونه حراما؛ لأن الحرام لا بركة فيه، ولا يربو عند الله. قال ابن إسحاق، والكلبي: كانت صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم: «حسن الوجه، حسن الشّعر، أجعده، أكحل العينين، أبيض، ربعة» فغيّروها، وكتبوا مكانها: طويلا، أزرق، سبط الشّعر، والذي حملهم على ذلك: أنّهم خافوا زوال رياستهم، وانقطاع ما يأخذونه من سفلتهم. وقال الزّهري: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-: يا معشر المسلمين! كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتاب الله الذي أنزله الله على نبيه أحدث أخبار الله، تقرءونه غضا لم يشب، وقد حدّثكم الله تعالى: أنّ أهل الكتاب قد بدّلوا كتاب الله، وغيّروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، ولا والله ما رأينا منهم أحدا قطّ سألكم عن الذي أنزل عليكم؟!.

{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا..}. إلخ؛ أي: فويل لهم ممّا كتبوا بأيديهم من الكذب، والبهتان، والافتراء، وويل لهم ممّا أكلوا من سفلتهم من السّحت الحرام. هذا؛ وكرر لفظ: (ويل) تغليظا لفعلهم، وتشنيعا لعملهم، وتقبيحا لسوء صنيعهم. والتكرير واقع في آيات القرآن، منه ما يكون لمزيد المدح، ورفعة الشأن، كما في سورة (الواقعة): {فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ}. ومنه ما يكون لمزيد التهويل، والتخويف، والزجر والرّدع، مثل قوله تعالى في سورة (الواقعة):

{وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ}.

هذا؛ واليد تطلق في الأصل على اليد الجارحة، وقد تطلق على النفس، والذات كما في الآية رقم [١٩٤] الآتية، وقد تطلق على القدرة، والقوّة، وهو كثير مثل قوله تعالى في سورة (ص) رقم [١٧]: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ}. خذ قول عروة بن حزام العذري، وهو الشاهد رقم [١١٦] من كتابنا: «فتح رب البريّة»: [الطويل]

وحمّلت زفرات الضّحى فأطقتها... ومالي بزفرات العشيّ يدان

كما تطلق اليد على النّعمة، والمعروف، يقال: لفلان يد عندي؛ أي: نعمة، ومعروف، وإحسان. وتطلق على الحيلة، والتدبير، فيقال: لا يد لي في هذا الأمر؛ أي: لا حيلة لي فيه، ولا تدبير.

<<  <  ج: ص:  >  >>