السّلف التفويض، ومذهب الخلف التأويل، فالصّحابة، والتابعون لهم بإحسان لم يخوضوا في تفسيرها، ويكلون العلم بها إلى الله تعالى، فعن أبي بكر الصدّيق-رضي الله عنه-أنه قال: في كتاب الله سرّ، وسر الله في القرآن أوائل السور. وعن عمر، وعثمان، وابن مسعود-رضي الله عنهم-: أنهم قالوا: الحروف المقطعة من السرّ المكتوم؛ الذي لا يفسّر، وعن عليّ-رضي الله عنه-وكرّم وجهه: أنّه قال: إنّ لكلّ كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي. وعن ابن عباس، وعليّ أيضا-رضي الله عنهما-: إنّ الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم، إلا أنّا لا نعرف تأليفه منها.
ولكن بعد أن اتسعت رقعة البلاد الإسلامية، ودخل أكثر أهل البلاد المفتوحة في الدين الإسلامي الحنيف، وظهرت الملل، والنحل، خصوصا في العصر العباسيّ اضطر علماء المسلمين للخوض في تفسير هذه الحروف، وأعني بهؤلاء: الخلف، وبمذهبهم: مذهب الخلف، وكثرت الأقوال، والتفاسير في ذلك، فقيل: هي أسماء للسّور؛ الّتي بدئت بها. وقيل: كل حرف مفتاح اسم من أسماء الله تعالى، فالألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسمه اللطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، ومعين، ومتين، وقيل: الألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه. وقيل: هي أسماء مقطعة لو علم الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم، ألا ترى أنك تقول:({الر}، و {حم}، و {ن}) فيكون مجموعها الرحمن، وكذلك سائرها، ولكن لم يتهيأ تأليفها جميعا، وروى أبو الضحى عن ابن عباس-رضي الله عنهما-في قوله تعالى:{الم} قال: أنا الله أعلم، وفي:{الر} أنا الله أرى، وفي:{المص} أنا الله أفصل، فالألف تؤدي معنى:«أنا» واللام تؤدي عن معنى: «اسم الله» والميم تؤدي عن معنى: «أعلم» واختار هذا القول الزجاج، قال: أذهب إلى أنّ كل حرف منها، يؤدّي عن معنى، وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها، ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها، كقول زهير، قاله القرطبي، وقال المرحوم محمد محيي الدين عبد الحميد: من ذلك قول لقيم بن أوس أحد بني ربيعة بن مالك يخاطب امرأته: [الرجز]
إن شئت أشرفنا كلانا فدعا... الله جهدا ربّه فأسمعا
بالخير خيرات وإن شرّا فا... ولا أريد الشّرّ إلاّ أن تا
أراد: وإن شرّا فشرّ، إلا أن تشائي، وقول الآخر:[الرجز]
نادوهم ألا الجموا ألا تا... قالوا جميعا كلّهم ألا فا
أراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا. ومن ذلك قول حكيم بن معية التميمي:[الرجز]