والقول الثاني في معنى هذا السجود: هو الانقياد والخضوع، وترك الامتناع، فكل من في السموات، ومن في الأرض ساجد لله بهذا المعنى، وهذا الاعتبار؛ لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل، فهم خاضعون له، ومنقادون لأوامره، انتهى. بحروفه.
أقول: وهذا الوجه هو المرضي عندي، ولعله المرضي عند الكثير، ويؤيده قوله عز وجل في سورة (الإسراء): {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} وهو باتفاق تسبيح دلالة، لا تسبيح عبادة.
{وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ}: قال المفسرون: إن ظل كل شيء يسجد لله، سواء ظل المؤمن وظل الكافر، وقال الزجاج: جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله، وظله يسجد لله. قال ابن الأنباري: ولا يبعد أن يخلق الله للظلال عقولا وأفهاما، تسجد بها وتخشع، كما جعل للجبال أفهاما حتى سبحت لله مع داود، قال القشيري: في هذا نظر؛ لأن الجبل عين، فيمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأما الظلال فآثار وأعراض، ولا يتصور تقدير الحياة لها، وقيل:
المراد بسجود الظلال: ميلانها من جانب إلى جانب آخر، وطولها وقصرها بسبب ارتفاع الشمس ونزولها، وذلك تصريف الله إياها على ما يشاء، وهو كقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ داخِرُونَ} الآية رقم [٤٨] من سورة (النحل)، قاله ابن عباس وغيره، وإنما خص الغدو والآصال بالذكر؛ لأن الظلال تعظم وتكثر في هذين الوقتين، وقيل: لأنهما طرفان فيدخل وسطه فيما بينهما.
بعد هذا (الغدو): جمع غدوة بضم الغين فيهما، وهي ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وقيل: إلى الضحوة الكبرى، وتجمع أيضا على غدى، والغداة في الأصل الضحوة، ولو حملها حامل على أول النهار لجاز له التذكير، والجمع غدوات، والآصال: جمع أصيل، وهو الوقت بين العصر والمغرب، ويجمع أيضا على أصائل، وأصل، وأصلان، هذا؛ وقيل: الآصال جمع أصل، والأصل جمع أصيل، ثم أصائل جمع الجمع، قال أبو ذؤيب الهذلي:[الطويل]
لعمري لأنت البيت أكرم أهله... وأقعد في أفيائه بالأصائل
هذا؛ ويطلق الأصيل على الشعاع الممتد من الشمس إلى الماء، مثل الحبال، ويشبه لون أشعته في الماء لون الذهب، وانظر الآية رقم [٤١] من سورة (آل عمران)، والآية رقم [٥٢] من سورة (الأنعام)، ففيهما كبير فائدة.
هذا؛ والآية التي الكلام فيها يسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءته، واستماعه لها، فهي من الآيات الأربع عشرة التي يسن السجود لتلاوتها واستماعها، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [٢٠٥] من سورة (الأعراف) تجد ما يسرك، وانظر الكلام على (من) في الآية [٤٨] من سورة (النحل)، وانظر الكلام على السجود في الآية رقم [٥٠] منها أيضا.
الإعراب:{وَلِلّهِ}: الواو: حرف استئناف. (لله): متعلقان بما بعدهما، وتقديمهما أفاد الاختصاص. {يَسْجُدُ}: مضارع، {مَنْ}: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل.