للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ} أي: على الافتراء، أو كلمة الكفر. {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ} أي: لم تتغير عقيدته، وقلبه ثابت على الإيمان، والمراد: به عمار بن ياسر-رضي الله عنهما-فقد روي: أن قريشا أكرهوا عمارا، وأبويه ياسرا، وسمية على الارتداد عن الإسلام، فربطوا سمية بين بعيرين، ثم جاء أبو جهل الخبيث، فجعل يسبها، ويرفث، ثم طعن فرجها بحربة خرجت من فمها، فقتلها-رضي الله عنها-، وأرضاها، وقتلوا ياسرا-رضي الله عنه-، وهما أول قتيلين شهيدين في الإسلام، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها، فقيل: يا رسول الله! إن عمارا كفر، فقال: «كلا، إن عمارا ملئ إيمانا من فرقه، إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه».

وأتى عمار-رضي الله عنه-يبكي، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح عينيه. وقال: «مالك؟». قال:

يا رسول الله نلت منك، وقلت: كذا، وكذا! فقال: «كيف وجدت قلبك». قال: مطمئنا بالإيمان، قال: «لا حرج عليك، وإن عادوا لك؛ فعد لهم بما قلت».

وفيه دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه، وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازا للدين، كما فعله أبو عمار-رضي الله عنهم-. وقد روي: أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين مسلمين، فقال لأحدهما ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فماذا تقول فيّ؟ قال: أنت أيضا، فخلاه. وقال للآخر، ما تقول: في محمد؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أما الأول؛ فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني؛ فقد صدع بالحق، فهنيئا له. انتهى. بيضاوي بتصرف.

قال العلماء: أول من أظهر الإسلام مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعة: أبو بكر، وخباب، وصهيب، وبلال، وعمار، وأبوه ياسر، وأمه سمية-رضي الله عنهم أجمعين-فأما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمنعه الله من أذى المشركين بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر-رضي الله عنه-؛ فمنعه قومه، وعشيرته، وأخذ الآخرون، وألبسوا أدراع الحديد، وأجلسوا في حر الشمس بمكة، فأما بلال-رضي الله عنه-، فكانوا يعذبونه، وهو يقول: أحد أحد؛ حتى اشتراه أبو بكر، وأعتقه، وقتل ياسر، وسمية كما تقدم. وقال خباب: لقد، أوقدوا لي نارا، ما أطفأها إلا ودك ظهري. وأجمعوا على أنّ من أكره على الكفر، لا يجوز له أن يتلفظ بكلمته تصريحا، بل يأتي بالمعاريض، وبما يوهم أنه كفر، فلو أكره على التصريح يباح له ذلك بشرط طمأنينة القلب على الإيمان، غير معتقد ما يقوله من كلمة الكفر، ولو صبر؛ حتى قتل؛ كان أفضل؛ لأن ياسرا، وسمية قتلا، ولم يتلفظا بكلمة الكفر، ولأن بلالا صبر على العذاب، ولم يلم على ذلك.

قال العلماء: من الأفعال ما يتصور الإكراه عليها، كشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير والميتة، ونحوها، فمن أكره بالسيف، أو القتل على أن يشرب الخمر، أو يأكل الميتة، أو لحم الخنزير، أو نحوها؛ جاز ذلك له، لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ،} وقد بيّن الله حكم الضرورة في الآية رقم [١٤٥] من سورة (الأنعام)، والآية رقم [٣] من سورة (المائدة)، والآية

<<  <  ج: ص:  >  >>