للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حللنا محطة السور الأعظم، وهناك أقلّتنا الحمير، وسارت بنا في واد كأنه وادي الملوك، صخوره نارية، وحره قائظ، أدى بنا إلى السور، فاعتليناه، فبدت روعته في تغضنه، وامتداده، إلى الآفاق، وهو يتلوّى كالأفعى، وقد لبثت أسير فوقه ساعتين، والذكريات التاريخية المجيدة تمر بالخاطر، فتكبر القوم تارة، وتحط من قدرهم أخرى؛ إذ كان يتجلّى جبروت الإنسان، وبطشه بأخيه الإنسان، وتسخيره فيما لا ينفع.

وقد قرر الخبيرون: أن السور أضخم عمل أنجزته يد الإنسان، يفوق الهرم، وحدائق بابل المعلقة، وهو يطوق الصين من الشمال مبتدئا من البحر (عند شاي هاي كواي على خليج لياوتونج) إلى ممر كيايو في التيبت، وطوله في استقامة ١٢٥٥ ميلا، وبتعرجاته، وشعابه ١٥٠٠ وعلوه يتراوح بين ١٥ - ٣٠ قدما، وعرضه في أعلاه ١٥ وفي أسفله ٢٥ به ٢٥ ألف برج حربي، و ١٥ ألف برج للحراسة، وكأن الصين قد اختصت في بناء الأسوار حتى قال بعضهم: إننا لو جمعنا أسوارهم كلها لطوقنا الكرة الأرضية.

أمر بإقامته الإمبراطور (شي هوانج تي) الذي اعتلى الملك سنة ٢٢١ قبل الميلاد، ومحا نظام الإقطاع، وقسم البلاد إلى مديريات، وكان كلفا بالمباني الضخمة، من بينها قصره الذي وسعت ردهته عشرة آلاف نفس، رأى هذا العاهل مناما أنذره أن الخطر مقبل من الشمال، وقد أيد التاريخ ذلك، فإن كل ما قاسته الصين من المغيرين جاء من تلك الناحية، فأرغم من الناس ثلث الرجال القادرين في الصين كلها، وكثيرا ما عاقب العلماء، وألزمهم بالعمل في السور؛ لأنهم ناوءوه. وقيل: إنه أحرق كتب العلم، وفلسفة كنفوشيوس لما أن رأى الناس يجلونها، ويكبرون العلماء أكثر من إكبارهم للبراطرة.

ويطلق القوم على السور أحيانا اسم (أطول مقابر الدنيا) لكثرة من ماتوا في بنائه، ولم يتم بناء السور إلا في عهد ليوبانج من أسرة هان، وفي عهد أسر منج دعم السور، وزيد في طوابيه، ولعظيم هذا العمل أحاطه الناس في جميع العصور بخرافات، لا تزال عالقة بالأذهان، منها: أن الإمبراطور كان ساحرا ماهرا، وكان يمتطي جوادا سماويا اختط طريقه، وكان له سوط سحري، استطاع به أن يزيل الجبال، وينظم صرف مياه الهوانج هو، وكان يستخدم مردة الجن في جلب الأحجار، ويخال البعض أن كنوز البراطرة دفنت بين طياته، والكثير يعتقد: أن السور أقيم سدا في وجه الجن، لا الآدميين ويؤيدون ذلك بكثرة المعبودات البشعة، التي توضع على منافذ السور كلها، وممّا أثار دهشتي: أن السور يختط، أوعر المسالك؛ إذ يسلك الجبال، والربى العاتية، وهذا يتطلب مجهود الجبابرة.

وقال البعض: إن الأبراج كانت تقام أولا، ثم يوصل ما بينهما، وعند ممر نانكاو، الذي وقفنا قبالته، كان يعلو السور فوق مستوى البحر بنحو أربعة آلاف قدم وفي البقاع التي كانت

<<  <  ج: ص:  >  >>