للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما القول في {كَلاّ،} فإني أنقله لك بحروفه من مغني اللبيب لابن هشام-طيب الله ثراه- لتكون على بصيرة من أمرك. قال رحمه الله تعالى: وهي عند سيبويه، والخليل، والمبرد، والزجاج، وأكثر البصريين حرف معناه الردع، والزجر، لا معنى لها عندهم إلا ذلك، حتى إنهم يجيزون أبدا الوقف عليها، والابتداء بما بعدها، وحتى قال جماعة منهم: متى سمعت (كلاّ) في سورة؛ فاحكم بأنها مكية؛ لأن فيها معنى التهديد، والوعيد، وأكثر ما نزل ذلك بمكة؛ لأن أكثر العتو كان بها، وفيه نظر؛ لأن لزوم المكية إنما يكون عن اختصاص العتوّ بها، لا عن غلبته، ثم لا تمتنع الإشارة إلى عتو سابق، ثم لا يظهر معنى الزجر في {كَلاّ} المسبوقة بنحو قوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ} وقوله جل شأنه: {يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} وقوله جل ذكره: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ}.

وقولهم: المعنى: انته عن ترك الإيمان بالتصوير في أي: صورة ما شاء الله، وبالبعث، وعن العجلة بالقرآن تعسف؛ إذ لم يتقدم في الأوليين حكاية نفي ذلك عن أحد، ولطول الفصل في الثالثة بين كلاّ وذكر العجلة. وأيضا: فإن أول ما نزل خمس آيات من أول سورة العلق، ثم نزل قوله تعالى: {كَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى} فجاءت في افتتاح الكلام، والوارد منها في التنزيل ثلاثة وثلاثون موضعا كلها في النصف الأخير (وذلك في خمس عشرة سورة منه، وكلها مكية).

ورأى الكسائي، وأبو حاتم، ومن وافقهما: أن معنى الردع، والزجر ليس مستمرّا فيها، فزادوا فيها معنى ثانيا، يصح أن يوقف دونها، ويبتدأ بها، ثم اختلفوا في تعيين ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها للكسائي ومتابعيه: قالوا: تكون بمعنى: حقّا، والثاني: لأبي حاتم، ومتابعيه:

قالوا: تكون بمعنى: «ألا» الاستفتاحية، والثالث: للنضر بن شميل، والفراء، ومن وافقهما:

قالوا: تكون حرف جواب بمنزلة: «إي» ونعم، وحملوا عليه قوله تعالى: {كَلاّ وَالْقَمَرِ} فقالوا:

معناه: إي والقمر.

قول أبي حاتم عندي أولى من قولهما؛ لأنه أكثر اطرادا، فإن قول النضر لا يتأتى في آيتي (المؤمنون) و (الشعراء) على ما سيأتي، وقول الكسائي لا يتأتى في نحو قوله تعالى: {كَلاّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ} وقوله: {كَلاّ إِنَّ كِتابَ الفُجّارِ} وقوله جل شأنه: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} لأن همزة «أنّ» تكسر بعد ألا الاستفتاحية، ولا تكسر بعد حقا، ولا بعد ما كان بمعناها، ولأن تفسير حرف بحرف أولى من تفسير حرف باسم، وأما قول مكيّ: إن «كلاّ» على رأي: الكسائي اسم إذا كانت بمعنى: «حقا» فبعيد؛ لأن اشتراك اللفظ بين الاسمية، والحرفية قليل، ومخالف للأصل، ومحوج لتكلف دعوى علة لبنائها، وإلاّ فلم نوّنت؟!

وإذا صلح الموضع للردع، ولغيره جاز الوقف عليها، والابتداء بها على اختلاف التقديرين، والأرجح حملها على الردع؛ لأنه الغالب فيها، وذلك نحو قوله تعالى في سورة (مريم): {أَطَّلَعَ}

<<  <  ج: ص:  >  >>