وجوب اتباعه، والإيمان به. {مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ} ليتبعوه، ويهتدوا به، ويسيروا على نهجه. والذين كتموا هم: أحبار اليهود، ورهبان النصارى، كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم مع أن الإنجيل، والتوراة قد أمرهم باتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم. وموسى، وعيسى-على نبينا، وعليهما ألف صلاة وألف سلام-قد بشرا به، قال تعالى في سورة (الأعراف): {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ} رقم [١٥٧]. {فِي الْكِتابِ} المراد:
التوراة. {أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ} أي: الملائكة، والمؤمنون، أو كلّ شيء في السّماوات، والأرض، ويكونون قد جمعوا جمع من يعقل بالواو، والنون؛ لأنه أسند إليهم فعل من يعقل: كقوله تعالى حكاية عن قول يوسف-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:
{رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} ولم يقل: ساجدات. ومثله كثير، فهو من باب التغليب.
هذا؛ واللعن: الطرد، والإبعاد من رحمة الله تعالى، ولقد كرّر الله لعن الكافرين في هذه الآية، كما لعن الظّالمين، والكاذبين، والمنافقين النّاقضين للعهد، والميثاق في آيات متفرقة، وهو دليل قاطع على أنّ من مات على كفره؛ فقد استحقّ اللّعن من الله، والملائكة، والناس أجمعين، وأمّا الأحياء من الكفار؛ فقد قال بعض العلماء: لا يجوز لعن كافر معين؛ لأنّ حاله لا يعلم عند الوفاة، فلعلّه يؤمن، ويموت على الإيمان، وقد قيّد الله في الآية التالية إطلاق اللعنة على من مات على الكفر، ويجوز لعن الكفار جملة بدون تعيين، كما في قولك: لعن الله الكافرين، يدل عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:«لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشّحوم، فجمّلوها، وباعوها». وذهب بعضهم إلى جواز لعن إنسان معيّن من الكفار بدليل قتاله. وهو الصّحيح، كيف لا؟ وقد لعن حسان بن ثابت-رضي الله عنه-أبا سفيان، وزوجه هندا في شعره، ولم ينكر عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم. خذ قوله:[السريع]
لعن الإله وزوجها معها... هند الهنود طويلة البظر
وقد لعن الفاروق-رضي الله عنه-أبا سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي، وغيرهم؛ الذين قدموا المدينة المنورة بعد غزوة أحد، وقد أعطاهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الأمان على أن يكلّموه، فقام معهم جماعة من المنافقين، وقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ارفض ذكر آلهتنا بسوء، وقل: إنّ لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربك. فشقّ ذلك على سيد الخلق، وحبيب الحق صلّى الله عليه وسلّم، فقال الفاروق-رضي الله عنه-: يا رسول الله ائذن لي في قتلهم، فقال: إني أعطيتهم الأمان، فقال الفاروق-رضي الله عنه-: اخرجوا في لعنة الله، وغضبه؛ ولم ينكر عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك. كيف لا؟ وآية النور رقم [٧] تأمر المسلم أن يلعن نفسه؛ إن كان من الكاذبين.
وأما العصاة من المسلمين لا يجوز لعن واحد منهم على التعيين قطعا، وأما على الإطلاق فيجوز، كما في قولك: لعن الله الفاسقين، والفاسقات، والفاسدين، والفاسدات، والخبيثين،