وعفو المال ما يفضل عن النفقة، قال تعالى:{وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} والعافي: طالب المعروف، والإحسان، قال عروة بن الورد:[الطويل]
وإنّي امرؤ عافي إنائي شركة... وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
وجمع العافي: عفاة، قال الأعشى:[المتقارب]
تطوف العفاة بأبوابه... كطوف النّصارى ببيت الوثن
بعد هذا: فالآية الكريمة نزلت في قصة أبي بكر-رضي الله عنه-ومسطح بن أثاثة، وهو ابن خالته، وكان من المهاجرين البدريين المساكين، وكان أبو بكر-رضي الله عنه-ينفق عليه لفقره، وقرابته، فلما خاض مسطح في الإفك مع الخائضين، وأنزل الله براءة السيدة عائشة-كما رأيت فيما سبق-حلف أبو بكر-رضي الله عنه-ألا ينفق عليه، ولا ينفعه بشيء أبدا. فلما نزلت الآية الكريمة؛ قال أبو بكر-رضي الله عنه-: والله إني لأحب أن يغفر الله لي! فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: لا أنزعها منه أبدا، وجاء مسطح، فاعتذر إليه، وأقيم الحد عليه، كما رأيت فيما سبق.
وقال الضحاك، وابن عباس-رضي الله عنهما-: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم، وصلاتهم عن كل من قال في الإفك، وقالوا: لا نصل من تكلم في شأن عائشة. فنزلت الآية فيهم جميعا. والأول أصح، وذكره بلفظ الجمع فيه دلالة واضحة على فضل أبي بكر-رضي الله عنه-وعلو شأنه، ومرتبته؛ حيث احتمل الأذى من ذوي القربى، ورجع على مسطح بما كان ينفقه عليه، وهذا من أشد الجهاد؛ لأنه جهاد النفس. هذا؛ وخصوص السبب لا يمنع التعميم، فهنيئا لمن اقتدى بأبي بكر-رضي الله عنه-في عفوه وصفحه عمّن أساء إليه. وخذ هذه الطرفة اللطيفة، وهي: أن ابن المقري-رحمه الله تعالى-منع عن ولده النفقة تأديبا له على أمر وقع منه، فكتب إلى والده رحمه الله تعالى يقول:[السريع]
لا تقطعن عادة برّ ولا... تجعل عقاب المرء في رزقه
فإنّ أمر الإفك من مسطح... يحطّ قدر النّجم من أفقه
وقد جرى منه الذي قد جرى... وعوتب الصّدّيق في حقّه
فكتب إليه والده رحمه الله تعالى يقول:[السريع]
قد يمنع المضطرّ من ميتة... إذا عصى بالسّير في طرقه
لأنّه يقوى على توبة... تكون إيصالا إلى رزقه
لو لم يتب مسطح من ذنبه... ما عوتب الصّدّيق في حقّه