للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. وقال ابن عطية: ورث سليمان من داود ملكه، ومنزلته من النبوة، بمعنى: صار ذلك إليه بعد موت أبيه، فسمي ميراثا تجوزا، وهذا نحو قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «العلماء ورثة الأنبياء». ويحتمل قوله-عليه الصلاة والسّلام-: «إنّا معشر الأنبياء لا نورث». أنّه يريد:

أن ذلك من فعل الأنبياء، وسيرتهم.

وقال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدا من سليمان. وقال غيره: لم يبلغ أحد من الأنبياء ما بلغ ملكه، فإن الله سبحانه وتعالى سخر له الإنس، والجن، والطير، والوحش، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، وورث أباه في الملك والنبوة، وقام بعده بشريعته، وكل نبي جاء بعد موسى ممن بعث، أو لم يبعث، فإنما كان بشريعة موسى إلى أن بعث عيسى عليه السّلام، فنسخها. وقيل: إن بين موته وبين مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، نحوا من ألف وسبعمئة سنة، وعاش نيفا وخمسين سنة.

{وَقالَ يا أَيُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ:} سمى صوت الطير منطقا لحصول الفهم منه، والمنطق كل ما يصوت به من المفرد، والمؤلف المفيد، وغير المفيد. وقول سليمان هذا إنما هو تشهير لنعمة الله تعالى، واعتراف بمكانها، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، وكان سليمان عليه السّلام يفهم منها، كما يفهم بعضها من بعض.

هذا؛ وروي عن كعب الأحبار قال: صاح ورشان عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاخته، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا، وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا، وصاح طاووس، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: كما تدين تدان.

وصاح هدهد، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: من لا يرحم لا يرحم.

وصاح صرد، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: استغفروا ربكم يا مذنبين.

وصاحت طيطوى، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: كل حي ميت، وكل جديد بال، وصاح خطاف، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: قدموا خيرا تجدوه، وهدرت حمامة، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه. وصاح قمريّ، فقال: أتدرون ما يقول: قالوا: لا، قال: إنه يقول:

سبحان ربي العظيم. ثم قال: والغراب يدعو على العشار، والحدأة تقول: كل شيء هالك إلا وجهه. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغاء تقول: ويل لمن كانت الدنيا همه، والسرطان يقول: سبحان ربي القدوس. والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده. والضفدعة تقول:

سبحان المذكور بكل لسان. والدّرّاج يقول: الرحمن على العرش استوى.

وقال فرقد السّبخيّ: مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه، ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا: لا يا نبي الله! قال: إنه يقول: أكلت نصف ثمرة،

<<  <  ج: ص:  >  >>