للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ:} هذه استعارة بديعة، وأصل اللباس في الثياب، فقد شبه الله كلّ واحد من الزوجين لاشتماله على صاحبه في العناق، والضم باللباس المشتمل على لابسه، وسمّي امتزاج كلّ واحد من الزّوجين بصاحبه لباسا، لانضمام الجسد إلى الجسد، وامتزاجهما، وتلازمهما بالثّوب، قال النابغة الجعدي-رضي الله عنه-: [الرمل]

إذا ما الضّجيع ثنى جيدها... تداعت فكانت عليه لباسا

وقال أيضا-وهو كناية عن جيل عاصره، ثمّ فني الجيل، وبقي حيّا؛ يريد بذلك بيان عمره الطّويل-: [المتقارب]

لبست أناسا فأفنيتهم... وأفنيت بعد أناس أناسا

وقال بعضهم: يقال لما ستر الشيء، وواراه: لباس، فجائز أن يكون كلّ واحد منهما سترا لصاحبه عمّا لا يحل. كما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله: «من رزقه الله امرأة صالحة؛ فقد أعانه على شطر دينه، فليتّق الله في الشّطر الثّاني». رواه الطّبرانيّ في الأوسط، والحاكم عن أنس، رضي الله عنه. وفي رواية للبيهقيّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا تزوّج العبد؛ فقد استكمل نصف الدّين، فليتّق الله في النّصف الباقي».

أقول: وهذا المعنى هو أولى ما تفسر به الآية، فإنّ الرجل، والمرأة حينما يكون أحدهما عزبا، فإنه يكون عرضة لكلام الناس، فحينما يتزوج تنقطع ألسنة الناس عنه. هذا بالإضافة لما فهم من الحديث الشريف من تحصين الفرج، وغضّ البصر، فصار كلّ منهما لباسا لصاحبه بهذا المعنى، وقدّم سبحانه قوله: {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ} تنبيها على شدّة احتياج الرّجل للمرأة، وعدم صبره عنها، ولأنّه هو البادئ بطلب ذلك منها، وعليه؛ فينبغي لكلّ منهما أن ينتقي هذا اللباس من أهل التّقوى، والدّين، والأحاديث التي ترغب في اختيار الزّوجين موجودة في كتاب الترغيب، والترهيب، وغيره، لا أطيل الكلام في ذلك، وخذ ما يلي:

عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة؛ فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم، فإنّه له وجاء». رواه الستّة ما عدا ابن ماجة.

{عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ:} تظلمون أنفسكم بتعريضها للعقاب، وتنقيص حقها من الثواب. والاختيان أبلغ من الخيانة، كالاكتساب من الكسب، وسمّاه الله: خائنا لنفسه؛ من حيث كان ضرره عائدا عليه، وكلّ عاص لله خائن لنفسه بتعريضها للعقاب، وتنقيص حقّها من الثواب، وألف: {تَخْتانُونَ} مبدلة من الواو؛ لأنه من: خان، يخون، وتقول في الجمع: خونة، واسم الفاعل: خائن، وأصله: خاون؛ مثل: قائل، أصله: قاول.

<<  <  ج: ص:  >  >>