للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجد في أعمال الدين، فإن من اهتم بشيء محسوس بالبصر؛ عقد عليه طرفه، ومد إليه نظره، وقوم له وجهه، مقبلا عليه؛ أي: فقوم وجهك له غير ملتفت يمينا، ولا شمالا. و {حَنِيفاً} مائلا عن كل دين باطل إلى دين الحق. قال الشاعر: [الوافر] ولكنّا خلقنا إذ خلقنا... حنيفا ديننا عن كلّ دين

ولقد تكرر الكلام على إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-بأنه كان حنيفا، وفسر بما ذكرته. هذا؛ والحنف: الميل في القدمين. وقد قال القرطبي-رحمه الله تعالى- في غير هذا الموضع: ولفظة: حنيفا، وحنفاء من الأضداد، تقع على الاستقامة، وتقع على الميل. انتهى. وهذا يكون على المعنى المأخوذ منه، وهو الميل، وقد ذكرت لك فيما مضى:

أن الفعل: «مال» يتغير معناه بتغير الجار، تقول: ملت إليه، وملت عنه، وهو ظاهر.

{فِطْرَتَ اللهِ} أي: الزموا فطرة الله، والفطرة: الخلقة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} فالمعنى: أنه خلقهم قابلين للتوحيد، والإسلام، غير نائين عنه، ولا منكرين له، لكونه مجاوبا للعقل، ومساوقا للنظر الصحيح، حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الجن، والإنس، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه عزّ وجلّ: «كلّ عبادي خلقت حنفاء، فاجتالتهم الشّياطين عن دينهم، وأمروهم أن يشركوا بي غيري».

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، وينصّرانه، ويمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسّون فيها من جدعاء». ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ}. وفي رواية: «حتّى تكونوا أنتم تجدعونها». قالوا: يا رسول الله! أفرأيت من يموت صغيرا؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». رواه مسلم. ومعنى: «كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء» أي سالمة من العيوب، كاملة الخلق، ومعنى: «هل تحسّون فيها من جدعاء». أي:

مقطوعة الأذن. فمثّل قلوب بني آدم بالبهائم؛ لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها، فيقال: هذه بحائر، وهذه سوائب. يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم، ليس فيها كفر، ولا إيمان، ولا معرفة، ولا إنكار كالبهائم السائمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين، فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلهم.

وقال الزجاج-رحمه الله تعالى-: معناه: أن الله تعالى فطر الخلق على الإيمان به على ما جاء في الحديث: أن الله عز وجل أخرج من صلب آدم كالذر، وأشهدهم على أنفسهم، بأنه خالقهم، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ..}. إلخ الآية رقم [١٧٢] من سورة (الأعراف) وكل مولود هو من تلك الذرية؛ التي شهدت بأن الله تعالى خالقها. فمعنى فطرة الله:

<<  <  ج: ص:  >  >>