للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

متشقق القدمين. وقيل: كان نجارا. وقيل: كان راعيا. وقيل: كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة. وروي عنه: أن قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين، فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض.

وروي: أن رجلا وقف عليه في مجلس وهو يعلّم الناس الحكمة. فقال له: ألست عبد بني فلان؟ قال: نعم، قال: ألست كنت ترعى معي في مكان كذا؟ قال: بلى، قال: ما بلغ بك ما أرى، ويراه الناس من العلم، والحكمة؟ قال: بفضل الله علي وصدقي في الحديث، وأداء الأمانة، وصمتي عما لا يعنيني.

وروي من حديث ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لم يكن لقمان نبيا، ولكن كان عبدا كثير التفكر، حسن اليقين، أحبّ الله تعالى فأحبّه، فمنّ عليه بالحكمة، وخيّره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق، فقال: يا رب! إن خيرتني قبلت العافية، وتركت البلاء، وإن عزمت علي فسمعا، وطاعة، فإنك ستعصمني». ذكره ابن عطية. وزاد الثعلبي: «فقالت له الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه المظلوم من كل مكان، إن يعن فبالحرى أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلا فذلك خير من أن يكون فيها شريفا، ومن يختر الدنيا على الآخرة؛ تفته الدنيا، ولا يصب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة، فأعطي الحكمة، فانتبه يتكلم بها».

ثم نودي داود بعده فقبل الخلافة، ولم يشرط ما اشترطه لقمان، فهوى في الخطيئة غير مرة، كل ذلك يعفو الله عنه. وكان لقمان يؤازره في حكمته، فقال له داود: طوبى لك يا لقمان، أعطيت الحكمة، وصرف عنك البلاء، وأعطي داود الخلافة، وابتلي بالبلاء، والفتنة.

قال له سيده ذات يوم: اذبح لي شاة، وائتني بأطيب مضغتين فيها. فأتاه باللسان، والقلب، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام، وأن يخرج أخبث مضغتين في الشاة الأخرى، فأتاه باللسان، والقلب، فسأله عن ذلك، فقال: هما أطيب ما فيها؛ إذا طابا، وهما أخبث ما فيها؛ إذا خبثا.

وقد قال سيد الخلق، وحبيب الحق، الناطق بالصدق: «ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب». رواه البخاري ومسلم.

وجاء في اللسان أحاديث شهيرة كثيرة، صحيحة، مذكورة في كتاب الترغيب والترهيب، خذ منها ما يلي: عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من وقاه الله شرّ ما بين لحييه وشرّ ما بين رجليه دخل الجنّة». رواه الترمذي وحسنه. انتهى. قرطبي وكشاف وغيرهما بتصرف.

هذا؛ وأما الحكمة؛ فهي الصواب في المعتقدات، والفقه في الدين، والعقل، والعمل.

وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: والحكمة في عرف العلماء: استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية، واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها.

<<  <  ج: ص:  >  >>