للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الكلبيّ-رحمه الله تعالى-: هذا من الّذي لا يفسّر. وسفيان بن عيينة-رحمه الله تعالى- قال: كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه؛ فتفسيره قراءته، والسكوت عليه، وليس لأحد أن يفسّره إلا الله، ورسوله. وكان الزّهري، والأوزاعي، ومالك، وابن المبارك، وسفيان الثّوري، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه-رضوان الله عليهم أجمعين-يقولون في هذه الآية، وأمثالها: اقرءوها كما جاءت، بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل. هذا مذهب أهل السّنّة، ومعتقد سلف الأمّة، وأنشد بعضهم في المعنى: [الطويل]

عقيدتنا أن ليس مثل صفاته... ولا ذاته شيء عقيدة صائب

نسلّم آيات الصّفات بأسرها... وأخبارها للظّاهر المتقارب

ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا... وتأويلنا فعل اللّبيب المغالب

ونركب للتّسليم سفنا فإنّها... ليسلم دين المرء خير المراكب

المذهب الثاني: وهو قول جمهور علماء المتكلمين، وذلك: أنه أجمع جميع المتكلمين من العقلاء، والمعتبرين من أصحاب النظر على أنه تعالى منزّه عن المجيء، والذهاب، ويدلّ على ذلك: أنّ كلّ ما يصحّ عليه المجيء، والذهاب، ولا ينفكّ عن الحركة، والسكون-وهما محدثان- وما لا ينفك عن المحدث؛ فهو محدث، والله تعالى منزّه عن ذلك، فيستحيل ذلك في حقّه تعالى، فثبت بذلك: أنّ ظاهر الآية ليس مرادا، فلا بد من التأويل على سبيل التفصيل. فعلى هذا قيل في معنى الآية: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ} أي: بالآيات، فيكون مجيء الآيات مجيئا لله تعالى على سبيل التفخيم لشأن الآيات. وقيل: معناه: إلا أن يأتيهم أمر الله، ووجه هذا التأويل: أن الله تعالى فسّره في آية أخرى، فقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} الآية [٣٣] من سورة (النحل)، فصار هذا الحكم مفسرا لهذا المجمل في هذه الآية.

قال ابن تيميّة-رحمه الله تعالى-في رسالته التدمرية: وصفه تعالى نفسه بالإتيان في ظلّ من الغمام كوصفه بالمجيء في آيات أخر، ونحوهما مما وصف به نفسه في كتابه، أو صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والقول في جميع ذلك من جنس واحد، وهو مذهب سلف الأمّة، وأئمتها، إنّهم يصفونه سبحانه بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلّى الله عليه وسلّم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، والقول في صفاته كالقول في ذاته، والله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فلو سأل سائل: كيف يجيء سبحانه؟ فليقل له: كما لا تعلم كيفية ذاته، كذلك لا تعلم كيفية صفاته. انتهى. صفوة التفاسير. وانظر ما ذكرته رقم [٧] من سورة (آل عمران)، فله اتصال بمعنى هذا الكلام.

أقول: وإنما ذهب جمهور العلماء من المتكلّمين إلى ما ذهبوا في العصر العباسي حينما كثرت الفرق الإسلامية الضالّة، وكثرت البدع، والآراء الشاذّة، فتصدى هؤلاء إلى تزييف تلك

<<  <  ج: ص:  >  >>