للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-عشرة قرون، كلّهم على شريعة من الحقّ، فاختلفوا. ودلّ على هذه الجملة لدلالة قوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}. وانظر شرح أمّة في الآية رقم [١٢٨]، والإمة بكسر الهمزة: النعمة؛ لأنّ الناس يقصدون قصدها. {فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ:} انظر الآية رقم [٦١]. {مُبَشِّرِينَ:} للمؤمنين بالجنّة، وحسن المآل. ({مُنْذِرِينَ}): مخوفين للكافرين، والعاصين بالنّار، وسوء الحساب.

{وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ} المراد به الجنس، لا المراد: أنّ الله تعالى أنزل بكلّ واحد منهم كتابا يخصّه، فإن أكثرهم لم يكن معهم كتاب يخصّهم، وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم. انتهى بيضاوي، وذلك كما في أنبياء بني إسرائيل، فإنّ جميعهم كان يحكم بالتوراة؛ حتّى بعث عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، بل وحتى عيسى كان يحكم بالتّوراة؛ لأن الإنجيل الّذي أنزل عليه، لم يكن فيه سوى بعض الأحكام المغيّرة لأحكام التوراة.

{لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} يحتمل رجوع الفاعل إلى {اللهُ} أو النبيّ المبعوث، أو كتابه، ويؤيد الأول قراءة الجحدري: («لنحكم») بنون العظمة. {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} أي: في الحقّ، أو في الكتاب. {أُوتُوهُ} أي: الكتاب حيث آمن به بعض، وكفر به بعض آخر. {مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ:} المعجزات الظاهرات، والحجج السّاطعات على التوحيد. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} حسدا بينهم أو ظلما، وعدوانا لحرصهم على الدنيا، {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا:} ثبّتهم الله على الحق {لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ:} بأمره، وتوفيقه. {وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ:} ففي هذه الآية ردّ على المعتزلة بقولهم: إنّ العبد يخلق أفعال نفسه، ويستبدّ بهدايته إلى ما يشاء، ويريد.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، نحن أوّل النّاس دخولا الجنّة، بيد أنّهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، فغدا لليهود، وبعد غد للنّصارى». المراد باليوم الذي اختلفوا فيه: يوم الجمعة.

وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه-رضي الله عنه-: اختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السّبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم ليوم الجمعة.

واختلفوا في الصّلاة، فمنهم من يركع، ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلّي؛ وهو يتكلم، ومنهم من يصلي؛ وهو يمشي، فهدى الله أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم للحقّ من ذلك.

واختلفوا في إبراهيم، عليه الصلاة والسّلام، فقالت اليهود: كان يهوديّا، وقالت النّصارى: كان نصرانيّا، وجعله الله حنيفا مسلما، فهدى الله أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى عليه السّلام، فكذبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتانا عظيما، وجعلته النصارى إلها وولدا، وجعله الله روحه، وكلمته، فهدى الله أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم للحقّ من ذلك. وكان أبو العالية-رحمه الله- يقول: في هذه الآية المخرج من الشّبهات، والضّلالات، والفتن.

<<  <  ج: ص:  >  >>