للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-: أول ما خلق الله من الإنسان الفرج، وقال: هذه الأمانة أستودعكها. فالفرج أمانة، والأذنان أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.

وفي رواية عن ابن عباس-رضي الله عنهما-: هي أمانات الناس، والوفاء بالعهود، فحق على كل مؤمن ألا يغش مؤمنا، ولا معاهدا في شيء، لا في قليل، ولا في كثير. فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السموات، والأرض، والجبال. وهذا قول جماعة من التابعين، وأكثر السلف، فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتنّ؛ جوزيتنّ، وإن عصيتنّ؛ عوقبتن. قلن: لا يا رب نحن مسخرات لأمرك، لا نريد ثوابا، ولا عقابا. وقلن:

ذلك خوفا، وخشية، وتعظيما لدين الله تعالى؛ لئلا يقوموا بها، لا معصية، ولا مخالفة لأمره.

وكان العرض عليهن تخييرا، لا إلزاما، ولو ألزمهنّ؛ لم يمتنعن من حملها، والجمادات كلها خاضعة لله تعالى، مطيعة لأمره، ساجدة له.

قال بعض أهل العلم: ركب الله فيهن العقل، والفهم حين عرض عليهن الأمانة، حتى عقلن الخطاب، وأجبن بما أجبن، كما حكى الله عنهن قولهن: {قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} الآية رقم [١١] من سورة (فصلت). وقيل: المراد من العرض على السموات، والأرض، والجبال: هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها. والقول الأول هو الأصح، وهو قول العلماء.

{فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها} أي: خفن من الأمانة ألا يؤدينها، فيلحقهن العقاب. {وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ} يعني: آدم، قال الله عزّ وجلّ لآدم: إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال، فلم تطقها، فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت؛ جوزيت خيرا، وإن أسأت عوقبت، فحملها آدم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام- وقال: بين أذني، وعاتقي، قال الله تعالى: أما إذا تحملت، فسأعينك، وأجعل لبصرك حجابا، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل؛ فأرخ عليه حجابه (المراد به: الجفنان) وأجعل للسانك لحيين، وغلافا، فإذا خشيت؛ فأغلقه عليه، وأجعل لفرجك لباسا، فلا تكشفه على ما حرمت عليك. قال مجاهد-رحمه الله تعالى-: فما كان بين أن تحملها وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر إلى العصر.

هذا؛ وفي الآية استعارة تمثيلية، مثل للأمانة في ضخامتها، وعظمها، وتفخيم شأنها بأنها من الثقل لو عرضت على السموات، والأرض، والجبال-وهي من القوة، والشدة بأعلى المنازل والمراتب-لأبت عن حملها، وأشفقت منها، وهو تمثيل رائع لتهويل شأن الأمانة.

هذا؛ والأمانة مصدر، وحق المصادر أن لا تجمع؛ لأنها كالفعل يدل على القليل والكثير من جنسه، ولكن لما اختلف أنواع الأمانة لوقوعها على الصلاة، والزكاة، والتطهر، والحج، وغير ذلك من العبادات؛ جاز جمعها؛ لأنها لما اختلفت أنواعها؛ شابهت المفعول به، فجمعت كما

<<  <  ج: ص:  >  >>