للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العاطف على طريق الاستئناف، ثم جيء في هذه الآية بكلام آخر للمستضعفين، فعطف على كلامهم الأول. هذا؛ ولا تنس المقابلة، والمطابقة بين {اُسْتُضْعِفُوا} و {اِسْتَكْبَرُوا} في هذه الآية، وفي الآيتين السابقتين، وهي من المحسنات البديعية، التي تزيد الكلام حسنا، وجمالا، وروعة، وجلالا.

{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ:} المكر أصله في لسان العرب: الاحتيال، والخديعة، وقد مكر به، يمكر فهو ماكر، ومكّار، قال الشاعر: [الطويل] قهرت العدا لا مستعينا بعصبة... ولكن بأنواع الخديعة والمكر

وقال زياد بن يسار: [الطويل] تعلّم شفاء النّفس قهر عدوّها... فبالغ بلطف في التّحيّل والمكر

وهذا هو الشاهد رقم [١٠٢١] من كتابنا فتح القريب المجيب. قال الأخفش: هو على تقدير: هذا مكر الليل، والنهار. قال النحاس: والمعنى: -والله أعلم-: بل مكركم في الليل، والنهار. قال قتادة: بل مكركم بالليل والنهار صدنا. فأضيف المكر إلى الليل، والنهار لوقوعه فيهما، وهو كقوله تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ} فأضاف الأجل إلى نفسه، وهذا من قبيل قولك: ليله قائم ونهاره صائم، وقال المبرد مثله، وأنشد لجرير: [الطويل] لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى... ونمت وما ليل المطيّ بنائم

ونظيره قوله تعالى في كثير من الآيات: {وَالنَّهارَ مُبْصِراً} إذ المعنى: مبصرا فيه بالضوء؛ لأن النهار لا يبصر؛ بل يبصر فيه. هذا؛ وقرئ: «(بل مكر الليل والنهار)» بالتنوين ونصب الظرفين، وقرئ: «(بل مكر الليل والنهار)» بنصب (مكر) ورفعه، وتشديد الراء، فهي قراءات ثلاث. وانظر الإعراب لإيضاح المعنى، وروي عن سعيد بن جبير-رضي الله عنهما-: أنه قال:

المعنى مرّ الليل، والنهار عليهم، فغفلوا. وقيل: طول السلامة فيهما، كقوله تعالى: {فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ}. {إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً} أي: أشباها، وأمثالا، قال محمد بن يزيد:

فلان ند فلان؛ أي: مثله، ويقال: نديد، وأنشد: [الوافر] أيا من تجعلون إليّ ندّا... وما أنتم لذي حسب نديد

والمعنى: أن المستكبرين لما أنكروا بقولهم: {أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى} بأن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين، وأثبتوا ذلك بقولهم: {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ:} أن ذلك بكسبهم، واختيارهم؛ كرّ عليهم المستضعفون بقولهم: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم، كأنهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا؛ بل من جهة مكركم لنا دائبا ليلا، ونهارا، وحملكم إيانا على الشرك، واتخاذ الأنداد.

<<  <  ج: ص:  >  >>