للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

و {شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} مشتقة من التزقم، وهو البلع على جهد لكراهتها، ونتنها، وهي تحيا بلهب النار، كما تحيا الشجرة في الدنيا بالماء البارد. واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا؛ التي تعرفها العرب، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها معروفة من شجر الدنيا. ومن قال بهذا اختلفوا فيها، فقال قطرب: إنها شجرة مرّة تكون بتهامة من أخبث الشجر. وقال غيره: بل هو كل نبات قاتل.

وفي القاموس المحيط: نبات بالبادية له زهر ياسميني الشكل. القول الثاني: إنها لا تعرف في شجر الدنيا. فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ما نعرف هذه الشجرة، فقدم عليهم رجل من إفريقية، فسألوه، فقال: هو عندنا الزّبد، والتمر. فقال ابن الزّبعرى: أكثر الله في بيوتنا الزقوم.

فقال أبو جهل الخبيث لجاريته: هاتي زقّمينا، فأتته بزبد، وتمر، ثم قال لأصحابه: تزقّموا هذا الذي يخوفنا به محمد، يزعم: أن النار تنبت الشجر؛ والنار تحرق الشجر. انتهى. قرطبي.

هذا وفي ذلك دلالة واضحة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة إنما هو بمنزلة ما يهيأ للضيف النازل على غيره، ولهم فيما وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام، لهم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وكذلك الزقوم بمنزلة ما يهيأ للضيف النازل، ولأهل النار فيما وراء ذلك من المقت والسخط والعذاب الأليم والعقاب الشديد ما ذكرته الآيات القرآنية في كل موطن من مواطن الكلام على أهل النار.

{إِنّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ:} وذلك: أنهم قالوا: كيف تكون في النار شجرة، وهي تحرق الشجر؟! والمراد: بالظالمين: المشركين هنا، والفتنة: الاختبار، والابتلاء، وكان هذا القول منهم جهلا؛ إذ لا يستحيل في العقل أن يخلق الله في النار شجرا من جنسها لا تأكله النار، كما يخلق الله فيها الأغلال، والقيود، والحيات، والعقارب، وخزنة جهنم. {إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ:} قيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع في دركاتها. {طَلْعُها} أي:

ثمرها، والطلع أصله للنخلة، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم، من حملها؛ إما استعارة معنوية، أو لفظية، وتشبيهه برؤوس الشياطين، دلالة على تناهيه في الكراهية، وقبح المنظر؛ لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس لاعتقادهم: أنه شر محض، لا يخالطه خير، فيقولون في قبيح الصورة: كأنه وجه شيطان، كأنه رأس شيطان، وإذا صوره المصورون؛ جاؤوا بصورته على أقبح ما يقدر، وأهوله، كما أنهم إذا اعتقدوا في الملك الخير المحض، ولا شر فيه فشبهوا به الصورة الحسنة. فقد حكى الله تعالى على النسوة اللاتي قلن في وصف يوسف على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} وهذا تشبيه تخييلي، روي معناه عن ابن عباس، والقرظي، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي... ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وإن كانت الغول لا تعرف، ولكن لما تصوّر من قبحها في النفوس، وذلك من باب التمثيل، والتخييل، وذلك: أن كل ما يستقبح في الطباع، والصورة يشبّه بما يتخيله الوهم، وإن لم يره.

<<  <  ج: ص:  >  >>