للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة-رضي الله عنهم-، وليس ذلك في كتاب، أو سنة، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلّما من غير حجة، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بغلام حليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ} ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا: {إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ}. رقم [٥٣] من سورة (الحجر)، وقال تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} رقم [٢٨] من سورة (الذاريات)، وقال تعالى: {فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} رقم [٧١] من سورة (هود)، على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، أي: يولد في حياة إبراهيم وزوجته سارّة ولد يسمى يعقوب، فيكون من ذريته عقب، ونسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا؟ وإسماعيل وصف هاهنا بالحليم؛ لأنه مناسب لهذا المقام. انتهى. مختصر ابن كثير.

هذا؛ وسئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد: [الكامل]

إنّ الذّبيح هديت إسماعيل... نطق الكتاب بذاك والتنزيل

شرف به خصّ الإله نبيّنا... وأتى به التفسير والتأويل

إن كنت أمّته فلا تنكر له... شرفا به قد خصّه التّفضيل

وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا ابن الذبيحين» فالأول جده إسماعيل، والآخر أبوه عبد الله، فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا؛ إن سهل الله له حفر بئر زمزم، أو بلغ بنوه عشرة من الذكور، فلما تحقق له ذلك؛ همّ بذبح عبد الله، فقام في وجهه زعماء قريش، وكان ذلك بعد أن أقرع بين أولاده، وخرجت القرعة على عبد الله، ففداه بمئة من الإبل، ولذلك ثبتت الدية مئة من الإبل، وانظر تفصيل ذلك في كتب السيرة.

وروى الحاكم في المستدرك عن معاوية بن أبي سفيان؛ قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتاه أعرابي، فقال: يا رسول الله! خلفت البلاد يابسة، والمال عابسا، هلك المال، وضاع العيال، فعد عليّ مما أفاء الله عليك يا بن الذبيحين! قال معاوية: فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم ينكر عليه.

وروي فيما ذكره المعافى بن زكريا: أنّ عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه-سأل رجلا أسلم من علماء اليهود، أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: يا أمير المؤمنين والله إن اليهود ليعلمون: أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن يكون الذبيح أباكم، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون: أنه إسحاق. انتهى. زيني دحلان بتصرف كبير مني.

أقول: صريح قوله تعالى: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ} رقم [١١٠]، أقوى دليل على أن الذبيح إسماعيل. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم. وانظر الكلام فيما يلي. هذا؛

<<  <  ج: ص:  >  >>