للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى، أيقاظا، ورقودا، فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم. وهذا ثابت في الخبر المرفوع، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّا معاشر الأنبياء تنام عيوننا ولا تنام قلوبنا». ورحم الله البوصيري إذ يقول: [البسيط]

لا تنكر الوحي من رؤياه إنّ له... قلبا إذا نامت العينان لم ينم

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-: رؤيا الأنبياء وحي، واستدل بهذه الآية، ويقال: إن إبراهيم عليه السّلام، رأى في ليلة التروية كأن قائلا يقول: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح روّى في نفسه، أي: فكّر: أهذا الحلم من الله، أم من الشيطان؟ فسمّي يوم التروية، فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضا. وقيل له: الوعد، فلما أصبح؛ عرف: أن ذلك من الله، فسمّي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهمّ بنحره، فسمّي يوم النحر. وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرار الرؤيا.

{فَانْظُرْ ماذا تَرى:} من الرأي، وإنما شاوره في ذلك، وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله، فيثبّت قدمه إن جزع، ويأمن عليه إن سلم، وليوطن نفسه عليه، فيهون عليه، ويكتسب المثوبة، بالانقياد له قبل نزوله. هذا؛ وقرئ: {تَرى} بقراآت كثيرة.

{قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ} أي: ما تؤمر به، فحذف الجار، كما حذف من قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي-رضي الله عنه-وينسب لغيره: [البسيط]

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به... فقد تركتك ذا مال وذا نشب

فوصل الفعل إلى الضمير، فصار: تؤمره، ثم حذفت الهاء، كقوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى} أي: اصطفاهم. وإنما أجاب إسماعيل عليه السّلام بهذا الجواب؛ لأنه فهم من كلام أبيه: أنّه رأى: أنه يذبحه مأمورا به. أو علم: أن رؤيا الأنبياء حق، وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بالأمر. {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصّابِرِينَ:} على الذبح، أو على قضاء الله تعالى. والمعنى: امض لما أمرك الله به من ذبحي فستجدني إن شاء الله صابرا على تنفيذ أوامر الله تعالى، وهو جواب من أوتي الحلم، والصبر، وامتثال الأمر، والرضا بقضاء الله تعالى. وقد وفى بذلك، كما بينات الآيات التالية، ولذا مدحه الله بقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا} سورة (مريم) الآية رقم [٥٤].

{يا بُنَيَّ:} تصغير: ابن، تصغير إشفاق، وإرفاق، لا تصغير تحقير، وإهانة، فأصل ابن: بنو، فلما صغر صار: (بنيو) فلما اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون؛ قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، ثم ألحقت به ياء المتكلم، فاجتمع ثلاث ياآت، فحذفت الثانية منهن؛ التي هي لام الكلمة، ولم تحذف الأولى؛ لأنها ياء التصغير، وقد أتي بها لغرض خاص، ولم

<<  <  ج: ص:  >  >>