الليل؛ خرج يونس عليه السّلام من بين أظهرهم، فلما أصبحوا؛ تغشاهم العذاب، فكان فوق رؤوسهم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: إن العذاب كان قد أهبط على قوم يونس عليه السّلام، حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، فلما دعوا؛ كشف الله عنهم ذلك.
وقال مقاتل: قدر ميل، وقال سعيد بن جبير: غشي قوم يونس العذاب، كما يغشى الثوب القبر، وقال وهب: غامت السماء غيما أسود، هائلا يدخن دخانا شديدا، فهبط حتى غشي مدينتهم، واسودت أسطحتهم، فلما رأوا ذلك؛ أيقنوا بالهلاك، فطلبوا نبيهم يونس عليه السّلام، فلم يجدوه، فقذف الله سبحانه وتعالى في قلوبهم التوبة، فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم، ونسائهم، وصبيانهم، ودوابّهم، ولبسوا المسوح، وأظهروا التوبة، والتوحيد، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس، والدوابّ، فحنّ البعض إلى البعض، فحن الأولاد إلى الأمهات، والأمهات إلى الأولاد، وعلت الأصوات، وعجّوا إلى الله، وتضرعوا إليه، وقالوا: آمنا بما جاء به يونس، وتابوا إلى الله، وأخلصوا النية، فرحمهم ربهم، فاستجاب دعاءهم، وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب بعدما أظلهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء، وكان يوم الجمعة. وهذا فحوى قوله تعالى في السورة المسماة باسمه رقم [٩٨]{فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}.
هذا؛ وقال الخازن في سورة (يونس) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، فإن قلت: كيف كشف الله العذاب عن قوم يونس بعد ما نزل بهم، وقبل توبتهم، ولم يكشف العذاب عن فرعون حين آمن به، ولم يقبل توبته، قلت: أجاب العلماء عن هذا بأجوبة: أحدها أن ذلك كان خاصّا بقوم يونس، والله يفعل ما يشاء. الجواب الثاني: أن فرعون ما آمن إلا بعد مباشرة العذاب، وهو وقت اليأس من الحياة، وقوم يونس دنا منهم العذاب، ولم ينزل بهم، ولم يباشرهم، فكانوا كالمريض يخاف الموت، ويرجو العافية. والجواب الثالث: أن الله عز وجل علم صدق نيتهم في التوبة، فقبل توبتهم، بخلاف فرعون، فإنه ما صدق في إيمانه، ولا أخلص في توبته، فلم يقبل الله منه إيمانه. انتهى.
تنبيه: لقد اختلف في معنى «أو» فقال الفراء: هي بمعنى: «بل» وعليه قول جرير من قصيدة يمدح فيها هشام بن عبد الملك، وهذا هو الشاهد رقم (١٠١) من كتابنا: «فتح القريب المجيب»: [البسيط]
ماذا ترى في عيال قد برمت بهم؟ ... لم أحص عدّتهم إلاّ بعدّاد
كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية... لولا رجاؤك قد قتّلت أولادي
وقال غير الفراء:{أَوْ} هنا بمعنى: الواو لمطلق الجمع، وعليه قول جرير من قصيدة يمدح فيها الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو الشاهد رقم [٩٦] من كتابنا المذكور: [البسيط]