اعلم: أن من اختصه الله تعالى بنبوته، وأكرمه برسالته، وشرفه على كثير من خلقه، وائتمنه على وحيه، وجعله واسطة بينه وبين خلقه لا يليق أن ينسب إليه ما لو نسب إلى آحاد الناس؛ لاستنكف أن يحدث به عنه؛ فكيف يجوز أن ينسب إلى بعض أعلام الأنبياء، والصفوة الأمناء ذلك.
روى سعيد بن المسيب، والحارث الأعور عن علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-أنه قال:
(من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مئة وستين جلدة، وهو حد الفرية على الأنبياء). وقال القاضي عياض: لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطره الإخباريون من أهل الكتاب؛ الذين بدلوا، وغيروا، ونقله بعض المفسرين، ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك، ولا ورد في حديث صحيح، والذي نص عليه الله في قصة داود {وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ} وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم، هذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمر داود عليه السّلام.
قال الإمام فخر الدين: حاصل القصة يرجع إلى السعي في قتل مسلم بغير حق، وإلى الطمع في زوجته، وكلاهما منكر عظيم، فلا يليق بعاقل أن يظن بداود عليه السّلام هذا. وقال غيره:
إن الله أثنى على داود قبل هذه القصة، وبعدها، وذلك يدل على استحالة ما نقلوه من القصة، فكيف يتوهم عاقل أن يقع بين مدحين ذم، ولو جرى ذلك من بعض الناس في كلامه؛ لاستهجنه العقلاء، ولقالوا: أنت في مدح شخص كيف تجري ذمه في أثناء مدحك، والله منزه عن مثل هذا في كلامه القديم.
فإن قلت: في الآية ما يدل على صدور الذنب منه، وهو قوله تعالى:{وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ} وقوله تعالى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} وقوله: {وَأَنابَ} وقوله: {فَغَفَرْنا لَهُ} قلت: ليس في هذه الألفاظ شيء مما يدل على ذلك، وذلك لأن مقام النبوة أشرف المقامات، وأعلاها، فيطالبون بأكمل الأخلاق، والأوصاف، وأسناها، فإذا نزلوا من ذلك إلى طبع البشرية، عاتبهم الله تعالى على ذلك، وغفره لهم، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
فإن قلت: فعلى هذا القول، والاحتمال، فما معنى الامتحان في الآية؟ قلت: ذهب المحققون من علماء التفسير، وغيرهم في هذه القصة إلى أن داود عليه السّلام ما زاد على أن قال للرجل: انزل لي عن امرأتك، وأكفلنيها، فعاتبه الله تعالى على ذلك، ونبهه عليه، وأنكر عليه شغله في الدنيا.
وقيل: تمنى داود أن تكون امرأة أوريا له، فاتفق أن أوريا هلك في الحرب، فلما بلغه قتله لم يجزع عليه، كما جزع على غيره من جنده، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله تعالى على ذلك؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت، فهي عظيمة عند الله تعالى. وقيل: إن أوريا قد خطب تلك المرأة، ووطن نفسه عليها، فلما غاب في غزاته خطبها داود، فزوجت نفسها منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا،