بضم الغين وفتحها قراءتان ولغتان، ورحم الله عمرو بن العلاء الذي كان يطلب دليلا لغويّا على قراءة الفتح، فوجده في قول أمية بن أبي الصّلت، وهو الشاهد رقم [٥٥٣] من كتابنا: «فتح القريب المجيب»: [الخفيف]
ربّما تكره النّفوس من الأم... ر له فرجة كحلّ العقال
بفتح فاء (فرجة) فقد روي: أنه-رحمه الله تعالى-هرب من الحجّاج إلى اليمن، فسمع أعرابيّا يوما ينشد القصيدة التي منها هذا البيت، وقد فتح فاء (فرجة) فقال: ما وراءك يا أعرابي؟! قال: مات الحجّاج، فقال-رحمه الله تعالى-: والله فلم أدر بأيهما أفرح؟ أبموت الحجّاج أم بقوله (فرجة)؛ لأنّي كنت أطلب شاهدا لاختياري القراءة في سورة البقرة:{إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} يريد فتح الغين من (غرفة). كما فتحت الفاء في (فرجة)، هذا، وقال عليّ-رضي الله عنه-: الأكف أنظف الآنية، ومنه قول الحسن:[البسيط]
لا يدلفون إلى ماء بآنية... إلاّ اغترافا من الغدران بالرّاح
وقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم:«من شرب بيده، وهو يقدر على إناء، يريد به التّواضع، كتب الله له بعدد أصابعه حسنات، وهما إناء عيسى ابن مريم عليهما السّلام؛ إذ طرح القدح، فقال: أفّ هذا مع الدّنيا» أخرجه ابن ماجة، من حديث ابن عمر-رضي الله عنهما-.
{فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} أي: قطع النهر هو والذين اقتصروا على الغرفة.
{قالُوا لا طاقَةَ لَنَا..}. إلخ: لا قدرة لنا اليوم بجالوت وجنوده، فلم يقطعوا النهر معه، واسودت شفاههم، وغلبهم العطش، فلم يرووا، وجبنوا. {قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ:} قال الذين شربوا قليلا، وجاوزوا معه النهر، وامتلأت قلوبهم إيمانا، ويقينا، وصرامة، وشجاعة؛ {كَمْ مِنْ فِئَةٍ..}. إلخ: كثير من الجماعات القليلة قد غلبت الكثيرة بإرادة الله ومشيئته، فليس النصر عن كثرة العدد، وإنّما النّصر من عند الله العزيز الحكيم، وفي قولهم هذا- رضوان الله عليهم-تحريض على القتال، واستشعار للصبر، واقتداء بمن صدق ربّه، ووثق به.
قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: هكذا يجب علينا نحن أن نفعل، لكن الأعمال القبيحة، والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدّام اليسير من العدو، كما شاهدناه غير مرّة، وذلك بما كسبت أيدينا، وقد قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم:«هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟!» فالأعمال فاسدة، والضّعفاء مهملون، والصّبر قليل، والاعتماد ضعيف، والتقوى زائلة، قال تعالى في سورة آل عمران:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ،} وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ}