والثاني: الفسق، وهو المعاصي، والأول من عمل القلوب، والثاني من عمل الجوارح، وقدّم الأول على الثاني؛ لأنّ أحوال القلب أعظم وقعا من أعمال الجوارح.
هذا؛ وقال القرطبي: ومعنى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ} أي: تمتعتم بالطيبات في الدنيا، واتبعتم الشهوات، واللذات؛ يعني: المعاصي. وقيل:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ} أي: أفنيتم شبابكم في الكفر، والمعاصي. قال ابن بحر: الطيبات: الشباب، والقوة، مأخوذ من قولهم: ذهبت أطيباه؛ أي:
شبابه، وقوته. قال الماوردي: ووجدت الضحاك قاله أيضا. قلت: القول الأول أظهر. انتهى.
هذا؛ وخذ قول الربيع بن ضبع الفزاري أحد الشعراء المعمرين، وهو الشاهد رقم [٤٠٢] من كتابنا: «فتح رب البرية»: [الوافر] إذا عاش الفتى مئتين عاما... فقد ذهب المسرّة والفتاء
هذا؛ وأما في أيامنا هذه إذا عاش الإنسان ستين عاما؛ فقد ذهب الهناء، والسرور، وحلّت الأوجاع، والأكدار، والهموم، والأحزان. هذا؛ وانظر شرح {الطَّيِّباتِ} في الاية رقم [١٦] من سورة (الجاثية).
قال الخازن-رحمه الله تعالى-: لما وبّخ الله تعالى الكافرين بالتمتع بالطيبات؛ آثر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه والصالحون بعدهم اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الاخرة، فعن عمر -رضي الله عنه-قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا هو متكئ على حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟! قال:«نعم». فجلست، فرفعت رأسي في البيت، فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلاّ أهبة ثلاثة، فقلت: ادع الله أن يوسّع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم، ولا يعبدون الله، فاستوى جالسا، ثم قال:«أفي شك أنت يا بن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا». فقلت: استغفر لي يا رسول الله! متفق عليه. انتهى.
وأهبة: جمع: إهاب، وهو الجلد.
هذا؛ وفي:«الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري مثل هذا عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-. وقال جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-: اشتهى أهلي لحما، فاشتريته لهم، فمررت بعمر، -رضي الله عنه-، فقال: ما هذا يا جابر؟! فأخبرته، فقال: أو كلّما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه، أما يخشى أن يكون من أهل هذه الاية:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ}. وهذا كان بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن العربي-رحمه الله تعالى-: وهذا عتاب منه له على التوسع بابتياع اللحم، والخروج عن جلف الخبز، والماء، فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع، وتستمرئها العادة، فإذا فقدتها؛ استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض، بغلبة العادة، واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء، فأخذ عمر-رضي الله عنه-الأمر من أوله، وحماه