{فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ:} قبض روحه، وتركه جثّة هامدة لا حراك فيها، والعام: السنة، والحول، وجمعه: أعوام. {ثُمَّ بَعَثَهُ:} أحياه بردّ روحه إليه. ويحكى في قصص هذه الآية: أنّ الله تعالى بعث لها ملكا من الملوك يعمرها، ويجدّ في ذلك حتّى كان كمال عمارتها بعث القائل، وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته، ورجع بنو إسرائيل إليها، فلمّا أحياه الله، فكان أوّل شيء أحياه فيه عيناه لينظر بها إلى صنع الله، كيف يحيي الله بدنه، فلمّا استوى قائما سويّا، قال الله له بواسطة الملك:{كَمْ لَبِثْتَ:} كم نمت، ومكثت في هذه الحال؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم؛ وذلك أنّه مات أوّل النهار، ثم بعثه في آخر النّهار. فلما رأى الشمس عصرا ظنّ: أنها شمس ذلك اليوم، ومثله ما ذكر الله في شأن أهل الكهف:{قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}. {قالَ:} أي الملك لعزيز. {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ} أي: مكثت ميتا مائة عام كاملة. {فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} أي: إن شككت في ذلك؛ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتغيّر بمرور الزمن، وكان معه عنب، وتين، وعصير، فوجدها على حالها لم تفسد، والهاء في {يَتَسَنَّهْ} أصلية، أو هاء السكت، واشتقاقه من السّنة على الوجهين؛ لأنّ لامها هاء؛ لأن الأصل سنهة، والفعل سانهت، يقال: سانهت فلانا، أي:
عاملته سنة، أو واو لأن الأصل سنوة، والفعل سانيت. قال النّحاس: أصح ما قيل فيه: أنه من السّنة، أي لم تغيره السّنون، ويحتمل أن يكون من السّنة، وهي الجدب، ومنه قوله تعالى:
{وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} وانظر الإعراب. هذا؛ ولم يثنّ فاعله مع كونه عائدا على الطعام والشراب؛ لأحد أمرين: إما لكونهما متلازمين، فصارت كالشيء الواحد، وهو الغذاء، وإما لأنّ الضمير يعود إلى الشراب فقط، وثمّ جملة أخرى مقدرة حذفت لدلالة هذه عليها، والتقدير: انظر إلى طعامك لم يتسنه، وإلى شرابك لم يتسنه. انتهى. {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ} أي: دليلا على البعث، والحشر، والنشور بعد الموت.
{وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها:} نحييها، أو نرفع بعضها فوق بعض، ونركبه عليه، والنشز: المرتفع من الأرض، والارتفاع، ومنه المرأة النشوز، والناشز: وهي المرتفعة عن موافقة زوجها، قال تعالى:{وَاللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ} ومنه قوله تعالى في سورة (المجادلة):
{وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا،} وقال الشاعر: [الطويل]
ترى الثّعلب الحوليّ فيها كأنّه... إذا ما علا نشزا حصان مجلّل
{ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً:} الكسوة ما وارى الجسد من الثياب، واستعيرت هنا لما أنشئ من اللحم الذي غطى العظم، وهي استعارة جيدة، وحسنة. {فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ:} لمّا اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه، {قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ..}. إلخ: قال: أيقنت وعلمت علم مشاهدة أنّ الله قادر، ومقتدر لا يعجزه شيء.