حمار، وقيل: بل كانت حوتا ميتا بساحل البحر، فرآها وقد توزّعها دواب البحر والبر، فإذا مدّ البحر جاءت الحيتان، فأكلت منها، وإذا جزر البحر جاءت السّباع، فأكلت منها، فإذا ذهبت السّباع جاءت الطّير، فأكلت منها، فلما رأى إبراهيم عليه السّلام ذلك تعجّب منها، وقال: يا ربّ إني قد علمت: أنّك تجمعها من بطون السّباع، وحواصل الطّير، وأجواف الدّواب، فأرني كيف تحييها؛ لأعاين ذلك، فأزداد يقينا! فعاتبه ربه بقوله:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} أي: توقن، وتصدّق بقدرتي.
{قالَ بَلى} أي: يا ربّ قد علمت، وصدّقت، وآمنت. هذا؛ و {بَلى} حرف جواب ك «نعم» و «جير» و «أجل» و «جلل» و «إي» إلا أنّ «بلى» جواب لنفي متقدّم وإبطال ونقض وإيجاب له، سواء دخله الاستفهام أم لا، فتكون إيجابا له، نحو قول القائل: ما قام زيد؟ فتقول: بلى قد قام، وقوله:
أليس زيد قائما؟ فتقول: بلى، أي: هو قائم، قال تعالى في سورة الأعراف رقم [١٧٢]: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: لو قالوا: نعم؛ لكفروا.
{وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي: سألتك ليسكن قلبي، ويستقرّ عند المعاينة، والمشاهدة، ولهذا قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم:«ليس الخبر كالمعاينة» رواه ابن عباس، -رضي الله عنهما-. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم، إذ قال:{أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ويرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الدّاعي». رواه البخاريّ، ومسلم. فمعناه:
لو كان شاكا لكنّا أحقّ بالشكّ منه، ونحن لا نشكّ، فإبراهيم عليه السّلام أحرى ألا يشك.
والسؤال كان عن حالة الإحياء؛ لأنّ السؤال ب «كيف» إنّما يكون عن حالة شيء موجود متقرّر الوجود عند السّائل، والمسئول، فأراد إبراهيم عليه السّلام بهذا السؤال أن يترقّى من علم اليقين إلى عين اليقين، والهمزة في قوله تعالى:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ليست للاستفهام، وإنّما هي ألف إيجاب، وتقرير، مثل قوله تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ،}{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى} وقال جرير في مدح بني أميّة، وهو الشاهد رقم [١١] من كتابنا: «فتح القريب المجيب»: [الوافر]
ألستم خير من ركب المطايا... وأندى العالمين بطون راح؟
{قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ:} يقرأ بكسر الصّاد، ومعناه: قطّعهنّ، ومزّقهنّ، وقرئ بضمّها، ومعناه: أملهنّ، واضممهنّ. وقد قرئ بضم الصّاد وتشديد الرّاء مضمومة، ومفتوحة، والمعنى: اجمعهن إليك لتتأمّلهنّ، وتعرف صفاتهنّ، لئلا يلتبس عليك أمرهنّ بعد الإحياء، فأخذ طاووسا، وديكا، وغرابا، وحمامة-ومنهم من ذكر النّسر بدل الحمامة-فذبحهنّ، وقطّعهنّ، وخلط لحمهنّ، وجعلهنّ على أربعة جبال، وقيل: سبعة، وأمسك رءوسهنّ بيده، وقال لهنّ:
تعالين بإذن الله، فجعل كلّ جزء يطير إلى الآخر، حتّى صارت جثثا، ثم أقبلن نحوه، فانضممن إلى رءوسهن، وإبراهيم عليه السّلام ينظر إليهنّ.