{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ:} خارجون عن طاعة الله، مارقون من دينهم الحقيقي، رافضون لما في التوراة، والإنجيل؛ حيث تركوا اليهود الإيمان بعيسى، ومحمد، عليهما السّلام، والنصارى تركوا الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. فجملة المعنى من الاية الكريمة: أن الله تعالى نهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم. وانظر شرح (الفسق) في سورة (الذاريات)[٤٦].
تنبيه: سبب نزول هذه الاية الكريمة: أن المهاجرين كانوا في مكة في ضيق شديد، وبلاء مزيد، فلما هاجروا إلى المدينة؛ استقبلهم أهلها، ورحبوا بهم، وأحسنوا ضيافتهم، حيث آخى الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما بينهم، فجعل مع كل أنصاري مهاجرا يقوم بخدمته، ويساعده في معيشته، فكان الأنصاري يعطف على المهاجري عطف الوالد على ولده، والأخ على أخيه، والأم على ولدها، ويقسم ما يملكه من نخيل، وعقار قسمة شرعية، وكاد أحدهم يتنازل عن إحدى زوجتيه لأخيه المهاجر محبة دينية، ولذا مدح الله الأنصار بقوله:{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ..}. إلخ الاية رقم [٩] من سورة (الحشر)، فبعد أن كان المهاجرون بمكة ضعفاء؛ أصبحوا في المدينة أقوياء، وبعد أن كانوا بمكة فقراء؛ أصبحوا في المدينة أغنياء؛ لأنهم تاجروا وعملوا، وغنموا من جهادهم غنائم كثيرة، وكسبوا مكاسب عظيمة عند ذلك ترك بعض المهاجرين قيام الليل، وصيام النهار، وغفلوا عن ذكر الله، فعاتبهم الله بهذه الاية الكريمة.
هذا؛ وذكر السيوطي في أسباب النزول: أن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ظهر فيهم المزاح، والضحك، فنزلت الاية في ذلك، ونقل أيضا عن السدي، عن القاسم؛ قال: ملّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ملة، فقالوا: يا رسول الله! حدثنا، فأنزل الله:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الايات من أول سورة (يوسف)، ثم ملّوا ملة، فقالوا: حدثنا يا رسول الله فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا..}. إلخ. وأخرج ابن المبارك في الزهد قال: أنبأنا سفيان عن الأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فأصابوا من العيش ما أصابوا بعد ما كان فيهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه، فنزلت:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ..}. إلخ.
تنبيه: هذه الاية كانت سبب توبة كثير من المسلمين، الذين كانوا تائهين عن الصراط المستقيم، فلما سمعوها عادوا إلى حظيرة الدين، وصاروا من عباد الله الصالحين المقربين أمثال الفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، ومالك بن دينار، رحمهم الله تعالى، ولكل واحد منهم قصة في حكاية توبته، ورجوعه إلى ربه خالقه ورازقه، لا يتسع المقام هنا لذكرها.
هذا؛ و (القلب) قطعة صغيرة على هيئة الصّنوبرة، خلقها الله في الادمي، وجعلها محلا للعلم، فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار. يكتبه الله بالخط الإلهي، ويضبطه فيه