القلم، ثمّ خلق النون، وهي الدواة، وذلك قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ} ثم قال له: اكتب، قال:
وما أكتب؟ قال: ما كان، وما هو كائن إلى يوم القيامة، من عمل، أو أجل، أو رزق، أو أثر.
فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، قال: ثمّ ختم فم القلم، فلم ينطق، ولا ينطق إلى يوم القيامة. ثم خلق العقل، فقال الجبّار، ما خلقت خلقا أعجب إليّ منك، وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت! ولأنقصنّك فيمن أبغضت». قال: ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكمل الناس عقلا أطوعهم لله، وأعملهم بطاعة الله». وقيل: المراد به القلم المتداول بين أيدي الناس، أقسم الله به؛ لما فيه من البيان كاللسان، وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء ومن في الأرض، ومنه قول أبي الفتح البستي: [الطويل]
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم... وعدّوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتّاب عزّا ورفعة... مدى الدّهر أنّ الله أقسم بالقلم
وللشعراء في تفضيل القلم على السيف أبيات كثيرة منها ما ذكرناه أعلاه.
{وَما يَسْطُرُونَ} أي: ما يكتبون، يريد الملائكة يكتبون أعمال بني آدم. قاله ابن عباس -رضي الله عنهما-. وقيل: أي: وما يكتب الناس، ويتفاهمون به. وقيل: المراد: ما سجله القلم في الذي أجراه الله بالقدر، حين كتب مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السموات والأرضين بخمسين ألف عام وعليه يكون الجمع، يعني: التعبير بواو الجماعة للتعظيم، لا للجمع، وانظر سورة (اقرأ) وما أذكره فيها.
{ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}. هذا رد لقولهم: {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} رقم [٦] من سورة (الحجر) والمعنى: إنك لا تكون مجنونا؛ وقد أنعم الله عليك بالنبوة والحكمة.
فنفى عنه الجنون. وقيل: معناه: ما أنت بمجنون، والنعمة لله. وهو كما يقال: ما أنت بمجنون، والحمد لله. وقيل: إن نعمة الله كانت ظاهرة عليه من الفصاحة التامة، والعقل الكامل، والسيرة المرضية، والأخلاق الحميدة، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة. وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة، فوجودها ينفي حصول الجنون. فنبه الله تعالى بهذه الآية على كونهم كاذبين في قولهم: {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ،} ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (الطور) رقم [٢٩]:
{فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ}.
قال أبو عمرو الداني: فإن قيل: فكيف يسمى ما جاء من حروف الهجاء في الفواتح على حرف واحد، نحو (ص، ق، ن) حرفا، أو كلمة؟! قال القرطبي-رحمه الله تعالى-قلت: كلمة لا حرفا، وذلك من جهة أن الحرف لا يسكت عليه، ولا ينفرد وحده في الصورة، ولا ينفصل مما يختلط به، وهذه الحروف مسكوت عليها، منفردة منفصلة كانفراد الكلم، وانفصالها، فلذلك