للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(الذاريات) في حق المحسنين، وفي الثناء عليهم: {كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وقد ذكرت لك في أول هذه السورة: أن قيام الليل كان واجبا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أصحابه، وقد كلفوا أن يقوموا ساعات من الليل طويلة، لا تقلّ عن ثلثه، كما هو صريح أول السورة. وهذه الآية بينت تنفيذه؛ لأن قيام الليل، وإحياءه بأنواع الطاعات المختلفة: من ذكر، وصلاة، وتلاوة قرآن يقوي أبدانهم، ويزكي أرواحهم، ويعودهم الخشونة في العيش، واجتناب ما عليه المترفون من الراحة، والانغماس في الملذات، كلفهم الله تعالى بذلك؛ ليعدّهم إعدادا روحانيا، وجسمانيا للقيام بأعباء الدعوة الجديدة، وتحمل المشاق في سبيل نشر هذا الدين، ويا لها من تربية كريمة مجيدة تنشئ الرجال، وتعدّ الأجيال! وانظر ما ذكرته من إخلادهم للراحة، والترف في الآية رقم [١٦] من سورة (الحديد)، وذكرت لك في أول السورة: أن هذه الآية نسخت قيام الليل الواجب على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أصحابه على القول الأصح والمعتمد، وبقيت سنيته. هذا؛ وقال الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي: وإنما استعير الأدنى-وهو الأقرب-للأقل؛ لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت؛ قلّ ما بينهما من الأحياز، وإذا بعدت كثر ذلك. وقرئ بنصب (نصفه) و (ثلثه) وجرهما.

{وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} أي: من المؤمنين كانوا يقومون الليل معك للتأسي، والاقتداء بك، ومنهم من كان لا يدري كم صلى من الليل، وكم بقي، فكان يقوم الليل كله احتياطا، فقاموا؛ حتى تورمت أقدامهم، وامتقعت ألوانهم، ولذا قال الله تعالى: {وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} أي:

والله جل جلاله هو العالم بمقادير الليل، والنهار، وأجزائهما، وساعاتهما، لا يفوته علم ما تفعلون من قيام هذه الساعات في ظلمة الليل ابتغاء رضوانه. وهو تعالى المدبر لأمر الليل، والنهار بالزيادة، والنقصان. فتارة يعتدلان، وتارة يأخذ هذا من هذا، وهذا من هذا. {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي: تحصوا الليل؛ لتقوموا فيما يجب عليكم قيامه لا بقيام جميعه، وهذا يشق عليكم.

{فَتابَ عَلَيْكُمْ} أي: عاد عليكم بالعفو، والتخفيف، والمعنى: عفا عنكم ما لا تحيطون بعلمه، ورفع المشقة عنكم بنسخ وجوب قيام الليل، وبقاء سنيته. وقال البيضاوي: {فَتابَ عَلَيْكُمْ} أي: بالترخيص في ترك القيام المقدر، ورفع التبعة فيه، كما رفع التبعة عن التائب من الذنب. انتهى. وهذا يدل على أنه كان منهم من ترك بعض ما أمر به.

{فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أي: فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، وإنما عبر عن الصلاة بالقراءة؛ لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة، بل هي الركن الأهم فيها. قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [١١]: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي: بقراءتك {وَلا تُخافِتْ بِها} أي: بقراءتك، وقد استدل أبو حنيفة-رحمه الله تعالى-بهذه الآية على أنه لا يجب تعيين قراءة الفاتحة في الصلاة، واعتضد بحديث المسيء صلاته، الذي رواه الشيخان: «ثمّ اقرأ ما تيسر معك من القرآن».

<<  <  ج: ص:  >  >>