نزل عليه؛ حرك لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه، فنزلت الآيات المذكورة هنا، ونزلت آية (طه)، ونزل قوله تعالى في سورة (الأعلى): {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى}. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ} أي: تفسير ما فيه من الحدود، والحلال، والحرام، والوعد، والوعيد.
هذا؛ و (قرآن) مشتق من قريت الماء في الحوض: إذا جمعته، فكأنه قد جمع فيه الحكم، والمواعظ، والآداب، والقصص، والفروض، وجميع الأحكام، وكملت فيه جميع الفوائد الهادية إلى طريق الرشاد. وخذ قول عمرو بن كلثوم في معلقته رقم [١٧]: [الوافر]
ذراعي عيطل أدماء بكر... هجان اللّون لم تقرأ جنينا
«لم تقرأ جنينا»: لم تضم، ولم تجمع في رحمها ولدا قط. وهو في اللغة مصدر بمعنى الجمع، يقال: قرأت الشيء قرآنا إذا جمعته، وبمعنى القراءة، يقال: قرأت الكتاب قراءة، وقرآنا، ثم نقل إلى هذا المجموع المقروء المنزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، المنقول عنه بالتواتر فيما بين الدفتين، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة (الفاتحة)، المختتم بسورة (الناس). وهذا التعريف متفق عليه بين العلماء، والأصوليين. أنزله الله؛ ليكون دستورا للأمة، وهداية للخلق أجمعين، وليكون آية على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وبرهانا ساطعا على نبوته، ورسالته، وحجة قائمة إلى يوم الدين، تشهد بأنه تنزيل الحكيم الحميد، بل هو المعجزة الخالدة، التي تتحدى الأجيال، والأمم على كر الأزمان، ومر الدهور، ورحم الله شوقي؛ إذ يقول:[البسيط]
جاء النّبيّون بالآيات فانصرمت... وجئتنا بكتاب غير منصرم
آياته كلما طال المدى جدد... يزينهنّ جمال العتق والقدم
وللقرآن أسماء عديدة، كلها تدل على رفعة شأنه، وعلو مكانته، وعلى أنه أشرف كتاب سماوي على الإطلاق، فيسمى: القرآن، والفرقان، والتنزيل، والذكر، والكتاب، والنور، والهدى... إلخ، كما وصفه الله بأوصاف عديدة، منها: نور، وهدى، ورحمة، وشفاء، وموعظة، وعزيز، ومبارك، وبشير، ونذير... إلى غير ذلك من الأوصاف التي تشعر بعظمته، وقدسيته. ويحرم على المحدث حدثا أكبر: قراءته، ومسه، وحمله. وعلى المحدث حدثا أصغر حمله ومسه، ولا يمنع من قراءته عن ظهر قلب. قال تعالى:{لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.
والمناسبة بين هذه الآيات، والتي قبلها واضحة؛ لأن تلك تضمنت الإعراض عن آيات الله، وهذه تضمنت المبادرة إليها بحفظها ورعايتها.
هذا؛ ويكثر النهي في القرآن الكريم عن العجلة، واستعجال الشيء قبل أوانه، وهذا النهي أكثر ما يوجه للكافرين؛ الذين طلبوا استعجال العذاب، وقد يوجه إلى بني آدم جميعا، وقد توجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في الآيات التي رأيتها هنا، بينما حث الله تعالى على المسارعة إلى فعل الطاعات،