للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الزمخشري: فإن قلت: ذكر هاهنا: أن أساورهم من فضة، وفي موضع آخر أنها من ذهب؟ قلت: هب أنه قيل: وحلّوا أساور من ذهب، ومن فضة، وهذا صحيح لا إشكال فيه على أنهم يسورون بالجنسين، إما على المعاقبة، وإما على الجمع، كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحلي، وتجمع بينها، وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران: سوار من ذهب، وسوار من فضة! ولا تنس: أن التعبير بالماضي (حلوا) عن المستقبل: «يحلون» لتحقق وقوعه.

وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: على كل واحد منهم ثلاثة أسورة: واحد من ذهب، وواحد من ورق، وواحد من لؤلؤ. وهو المنصوص عليه في القرآن، في سورة (الكهف) رقم [٣١]، وفي سورة (الحج) رقم [٢٣]، وأيضا في سورة (فاطر) رقم [٣٣]، وقال هنا: {وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}. وخص اللون الأخضر بالذكر هنا وفي سورة (الكهف) رقم [٣١]؛ لأنه أحسن الألوان، وأكثرها طراوة، وأعلاها بهجة، ولأن البياض يبدد النظر، ويؤلم، والسواد يذم، والخضرة بينهما، وذلك يجمع الشعاع.

{وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ..}. إلخ يعني: طاهرا من الأقذار، والأدران، لم تمسه الأيدي، ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا. وقيل: إنه لا يستحيل بولا، ولكنه يستحيل رشحا في أبدانهم، كرشح المسك، وذلك: أنهم يؤتون بالطعام، ثم من بعده يؤتون بالشراب الطهور، فيشربون منه، فتطهر بطونهم، ويصير ما أكلوا رشحا، يخرج من جلودهم أطيب من المسك الأذفر، وتضمر بطونهم، وتعود شهياتهم. وقيل: الشراب الطهور هو عين ماء على باب الجنة، من شرب منه نزع الله ما كان في قلبه من غل، وغش، وحسد، وكبر... إلخ. ولا تنس أن (الطهور) صيغة مبالغة.

وكل ما ذكر في هذه الآيات من النعيم المعد للأبرار مع ما ذكر من الأغلال، والسعير في الآية رقم [٤] المعد للكافرين، والفجار إنما هو على طريقة القرآن في المقارنة بين حال الأبرار، وحال الفجار، وتلك سنة اقتضتها حكمة العليم الخبير، ورحمته في كتابه بأن لا يذكر التكذيب من الكافرين، والمنافقين؛ إلا ويذكر التصديق من المؤمنين، ولا يذكر الإيمان؛ إلا ويذكر الكفر، ولا يذكر الجنة، ونعيمها؛ إلا ويذكر النار، وجحيمها، ولا يذكر الرحمة؛ إلا ويذكر الغضب، والسخط، ليكون المؤمن راغبا، راهبا، خائفا، راجيا.

كما روي عن علي-رضي الله عنه-أنه قال: إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة؛ وجدوا هنالك عينين، فكأنما ألهموا ذلك، فشربوا من إحداهما، فأذهب الله ما في بطونهم من أذى، ثم اغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم نضرة النعيم. فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر، وجمالهم الباطن. هذا؛ وانظر قوله تعالى: {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} في سورة (الأعراف) رقم [٤٣] وسورة (الحجر) رقم [٤٧].

هذا؛ والفعل: (سقاهم) من الثلاثي، كما يأتي من الرباعي: أسقى، وهما بمعنى واحد، تقول: سقى الله هذه البلاد الغيث، وأسقاها الغيث، فيكون بالهمزة تارة، وبدونه أخرى، وشاهد

<<  <  ج: ص:  >  >>