للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لآخرته عملا صالحا. قال القرطبي: نزلت في النضر، وابنه الحارث، وهي عامة في كل كافر؛ بل وفي كل مسلم كذاب منافق آثر الحياة الدنيا على الآخرة. {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى:} هي مستقره، ومأواه، ف‍: (أل) بدل من الضمير المحذوف المقدر، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (المعارج) رقم [٣٧]: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ} إذ التقدير: عن يمينك، وعن شمالك.

وهذا عند الكوفيين، وعند البصريين وعلى رأسهم سيبويه، التقدير: هي المأوى له. {وَأَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ:} أي: حذر وقوفه، ومقامه بين يدي الله عز وجل يوم القيامة؛ لعلمه بأنه راجع إلى الله تعالى في ذلك اليوم، فيكفّ عن محارم الله، ويقف عند حدوده؛ التي حدها له. قال تعالى في سورة (الرحمن): {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ}. {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} أي: زجرها عن المعاصي، والمحارم؛ التي من فعلها دخل النار. قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-: أنتم في زمان يقود الحقّ الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحقّ، فنعوذ بالله من ذلك الزمان! {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى} أي: المنزل، وفي هذه الآيات مقابلة واضحة لا خفاء فيها.

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: والآيتان نزلتا في مصعب بن عمير-رضي الله عنه-وأخيه عامر بن عمير، فقد روي: أن عامرا أسر يوم بدر. فأخذه الأنصار، فقالوا: من أنت؟ فقال: أنا أخو مصعب بن عمير. فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه، وبيتوه عندهم، فلما أصبحوا؛ حدثوا مصعبا-رضي الله عنه-حديثه. فقال: ما هو لي بأخ، شدوا أسيركم، فإن أمّه أكثر أهل البطحاء حليا، ومالا، فأوثقوه؛ حتى بعثت أمّه في فدائه.

وأما مصعب-رضي الله عنه-فقد وقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه-وهي السهام-فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متشحطا في دمه؛ قال:

«عند الله أحتسبك!». وقال لأصحابه: «لقد رأيته؛ وعليه بردان ما تعرف قيمتهما، وإن شراك نعليه من ذهب». هذا؛ وفسرت {مَقامَ رَبِّهِ} بوقوف العبد مقامه بين يدي الله؛ لأن المقام إنما هو للعبد، لا لله لتنزهه عن المكان، وأضيف إليه تعالى لملابسته له تعالى من حيث كونه بين يديه، ومقاما لحسابه. وانظر ما ذكرته في سورة (الرحمن) رقم [٤٦] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، ولا تنس المقابلة بين هذه الآيات، والطباق بين {الْجَنَّةَ،} و {الْجَحِيمَ}.

هذا؛ ولقد وصف الله تعالى في هذه الآية وغيرها الحياة التي يحياها ابن آدم بالدنيا لدناءتها، وحقارتها، وأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء، ورحم الله الحريري إذ يقول: [الكامل]

يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنّها... شرك الرّدى وقرارة الأكدار

دار متى ما أضحكت في يومها... أبكت غدا تبّا لها من دار

أو هي من الدنو، وهو القرب؛ لأنها في متناول يد الإنسان ما دام حيّا، وما أحسن قول الإمام الشافعي-رضي الله عنه-في وصفها: [الطويل]

<<  <  ج: ص:  >  >>