لأنّ مجموع الآيات بمنزلة أمّ واحدة، وكلام الله كلّه شيء واحد. قال الشّريف الرضي: هذه استعارة، والمراد بها: أنّ هذه الآيات جماع الكتاب، وأصله، فهي بمنزلة الأم له، وكأنّ سائر القرآن يتبعها، أو يتعلق بها، كما يتعلّق الولد بأمّه، ويفزع إليها في مهمّة. انتهى صفوة التفاسير.
{وَأُخَرُ:} جمع أخرى، ولم يصرف ({أُخَرُ}) لأنّه معدول به عن الآخر.
{مُتَشابِهاتٌ:} لا يفهم معناها، كالحروف المقطعة الموجودة في أوائل السّور، ومنه قوله تعالى في سورة (الفتح): {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ،} وقوله تعالى في سورة (طه) وغيرها: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى}(٥)، ومنه وقت قيام السّاعة، وخروج يأجوج، ومأجوج، والدّجال، ونزول عيسى عليه السّلام وجعله كله محكما بقوله تعالى في أول سورة هود:{كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ} أي:
في النّظم، والرّصف، وأنّه حقّ من عند الله، وأنّه ليس فيه عيب قطعا، وجعله متشابها بقوله تعالى في سورة (الزّمر): {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ} بمعنى: يشبه بعضه بعضا في الحسن، والصّدق، والفصاحة، والبلاغة، والتّناسب بدون تعارض، ولا تناقض، وفي تركيب النّظم، وصحة المعنى، والدّلالة على المنافع العامّة.
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ:} ميل عن الحقّ، ومنه: زاغت الشّمس عن كبد السماء، وزاغت الأبصار. وهذه الآية تعمّ كلّ طائفة من كافر، وزنديق، وجاهل، وصاحب بدعة؛ وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران. وقال قتادة-رحمه الله تعالى-: إن لم يكونوا الحرورية، وأنواع الخوارج؛ فلا أدري من هم؟ نعم منهم الزّنادقة، والقرامطة الطاعنون في القرآن، ومن على شاكلتهم من الباطنيين الذين يقولون: للقرآن ظاهر، وباطن، فيقولون: القرآن محرّف، ومبدّل. وخرّج مسلم-رحمه الله تعالى-عن عائشة رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ..}. إلخ، ثم قال:«إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الّذين سمّاهم الله؛ فاحذروهم». وأثبت أبو أمامة-رضي الله عنه-: أنّهم الخوارج.
ثم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «تفرّقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وسائرهم في النّار، ولتزيدنّ عليهم هذه الأمّة، واحدة في الجنّة، وسائرهم في النّار».
{فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} أي: إنما يأخذون بالمتشابه الّذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها؛ لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأمّا المحكم؛ فلا نصيب لهم فيه؛ لأنّه دامغ لهم، وحجّة عليهم.
{اِبْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} أي: طلب الإضلال لأتباعهم إيهاما لهم: أنّهم يحتجّون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجّة عليهم، لا لهم، كما لو احتجّ النّصارى بأنّ القرآن نطق بأن عيسى روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقوله تعالى في سورة (الزخرف):
{إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ} وبقوله تعالى في هذه السّورة: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ}