{وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى} أي: فقيرا لا مال لك. {فَأَغْنى:} قال القرطبي-رحمه الله تعالى-:
أي: فأغناك بمال خديجة-رضي الله عنها-. يقال: عال الرجل، يعيل عيلة: إذا افتقر. قال أحيحة بن الجلاح:[الوافر]
فما يدري الفقير متى غناه؟ ... وما يدري الغنيّ متى يعيل؟
وقال الأخفش: وجدك ذا عيال، دليله {فَأَغْنى} ومنه قول جرير: [الكامل]
والله أنزل في الكتاب فريضة... لابن السّبيل وللفقير العائل
وقال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق، واختاره الفراء، وقال: لم يكن غناه عن كثرة المال، ولكن الله تعالى أرضاه بما أعطاه، وذلك حقيقة الغنى. وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الغنى عن كثرة المال، والعرض، ولكن الغنى غنى النفس». متفق عليه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه». أخرجه مسلم، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«سألت ربي عز وجل مسألة، وددت أني لم أكن سألته: قلت: يا ربّ! إنك آتيت سليمان بن داود ملكا عظيما، وآتيت فلانا كذا، وفلانا كذا». قال: يا محمد ألم أجدك يتيما، فآويتك؟ قلت:«بلى يا ربّ!». قال: ألم أجدك ضالا فهديتك؟ قلت:«بلى يا ربّ!» قال: ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت:«بلى يا رب!». وزاد في رواية: ألم أشرح لك صدرك، ووضعت عنك وزرك؟ قلت:«بلى يا ربّ».
فإن قلت: كيف يحسن بالجواد الكريم أن يمنّ بإنعامه على عبده؛ والمنّ مذموم في صفة المخلوق، فكيف يحسن بالخالق تبارك وتعالى؟! قلت: إنما حسن ذلك؛ لأنه سبحانه وتعالى قصد بذلك أن يقوي قلبه، ويعده بدوام نعمه عليه، فظهر الفرق بين امتنان الله تعالى الممدوح، وبين امتنان الخلق المذموم؛ لأن امتنان الله تعالى زيادة إنعامه، كأنه قال: ما لك تقطع رجاءك عني؟ ألست الذي ربيتك وآويتك، وأنت يتيم صغير؟ أتظنني تاركك، ومضيعك كبيرا؟ بل لا بد وأن أتم نعمتي عليك!. فقد حصل الفرق بين امتنان الخالق وامتنان المخلوق. انتهى. خازن.
هذا؛ ولقد ذكرت لك منّ الله على حبيبه في كثير من السور، وبينت لك الفرق بين منّ الله الممدوح وبين منّ العبد المذموم الذي يحبط العمل، ويضيع الأجر، والثواب، بل ويوجب المقت، والسخط؛ لأن منّ الله على العبد يزيده شكرا له تعالى، كما يزيده طاعة له، ورغبة في عبادته. وأيضا فإن الله هو المالك حقيقة بما ينعم به على العبد ويمنّ به عليه، وأما العبد فإنه غير مالك بما ينعم به على الحقيقة، وإنما هو وكيل على هذه النعم، والمالك على الحقيقة إنّما هو الله تعالى، وأيضا منّ العبد على العبد يورثه ذلة، وانكسارا.